الفَلسَفَةُ الصِّينِيَّةُChinese Philosophy
إنّ الفلسفةَ الصِّينيَّةَ هي نظامُ التَّفكيرِ الَّذي طوَّرَه الشَّعبُ الصِّينيِّ في رحلةِ بحثِهِ عن فهمِ الكونِ ومعنَى الحياةِ البشريَّةِ والمجتمعِ. وتُعدُّ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ واحدةً مِنْ أقدمِ الفلسفاتِ في العالَمِ وأكثرِها تأثيراً. وهي تبحثُ في القضايَا السَّابقةِ باستخدامِ منهجٍ فريدٍ، وقد طوَّرتِ العديدَ مِنَ النظريَّاتِ المُتميِّزةِ. وفيمَا يتعلَّقُ بالموضوعاتِ السَّائدةِ في الفلسفةِ الصِّينيَّةِ القديمةِ، تصدَّرَتِ النِّقاشَ العلاقةُ بينَ البشريَّة والطَّبيعةِ والقوانينِ الأساسيَّة للتَّطوُّرِ التَّاريخيِّ. وقدْ نشأتْ منذُ مَا يزيدُ على ثلاثةِ آلافِ عامٍّ عبرَ الانتقالِ منْ أسرةِ شَانْغ إلى أسرةِ تسو. وبالإشارةِ لأسرةِ تسو الشَّرقيَّةِ، نجد أنَّ الفلسفةَ ازدهرتْ تحتَ مظلَّةِ التَّبارِي الَّذي دبَّ بينَ المدارسِ الفكريَّةِ المئة. وفي العُرفِ الأكاديميِّ، يُنظَرُ لتطوُّرِهَا التَّاريخيِّ قبلَ أواسطِ القرنِ العشرِينَ مِنْ خلال تقسيمِها لأربعِ مراحلَ هي: مرحلةُ مَا قبلَ أسرةِ «تشين -Qin» (تميَّزتْ بالتَّنافُسِ بينَ المدارسِ الفكريَّة المئةِ)، المرحلةُ منْ أسرةِ «هَان -Han» وصولاً لأسرةِ «تَانْغ -Tang» (فيها تنافستِ الكُونْفُوشيُوسيَّةُ، والطَّاوِيَّةُ، والبوذيَّةُ في جوٍّ مِنَ الانسجامِ)، والمرحلةُ مِنْ أسرةِ «سُونْغ -Song» إلى مدَّةٍ مُتأخِّرةٍ مِنْ أسرةِ «تشينغ -Qing» (عندَما سادتِ الكُونْفُوشيُوسيَّةُ الجديدةُ، الَّتي جمعتْ بينَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ والطَّاوِيَّةِ والبوذيَّةِ)، والمرحلةِ مَا بينَ 1840م حتى 1949م (شهدتِ التَّكامُلَ بينَ الفلسفتَيْنِ الصِّينيَّةِ والغربيَّةِ).
مَرحَلَةُ مَا قَبْلَ أُسْرَةِ تشين: التَّنَافُسُ بين المدارسِ الفكريَّةِ المئةِ
كانتْ أسرةُ «تشين -Qin» أوَّلَ أسرةٍ وحَّدتِ الصِّينَ تحتَ إمبراطوريَّةٍ مركزيَّةٍ، فقدْ تقوَّضتْ سلطةُ الأُسرِ الثَّلاثِ السَّابقةِ «شِيَا -Xia»، و«شَانْغ -Shang»، و«تشو -Zhou» بسببِ الولاياتِ الإقطاعيَّةِ القويَّةِ، حتَّى إنَّ نظامَ تسو فَقَدَ عاصمتَه القديمةَ، ولمْ يعُدْ للجيشِ القبليِّ تأثيرٌ فيه، وذلكَ عامَ 771 ق.م، فتسبَّبَ ذلكَ بنهايةِ أسرةِ «تشو -Zhou» الغربيَّة وبدايةِ أُسرةِ تشو الشَّرقيَّة. وبينَما كانَ التَّنافُسُ الضَّارِي علَى أشُدِّه بينَ الولاياتِ، استطاعتْ أسرةُ تشو الشَّرقيَّةُ أنْ تُنشِئَ وتشقَّ لنفسِهَا طريقاً مِنْ مرحلةِ الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ إلى مرحلةِ الوِلَايَاتِ المُتَحَارِبَةِ. وكانَ الصّراعُ منْ أجلِ البقاءِ والقوَّةِ باعثاً لتلكَ الولاياتِ للبحثِ بلهفةٍ عنْ أفكارٍ ألمعيَّةٍ واستراتيجيَّاتٍ فعَّالةٍ، فتسبَّب ذلك في تعزيز التَّنافُسِ بينَ المدارس الفكريَّةِ المئةِ. ومعَ ذلِكَ، فقدْ قدَّمتِ الأُسَرُ الثَّلاثُ سالفةُ الذِّكرِ العديدَ مِنَ الإنجازاتِ السِّياسيَّةِ والثَّقافيَّةِ، لا سيَّما فيمَا يتعلَّـقُ بالشَّعائرِ والطُّقوسِ، والموسيقَى، والقوانينِ، فهيَّأ كلُّ ذلك أرضيَّةً خصبةً لإثراءِ التَّنوُّعِ الفلسفيِّ والدِّيناميكيِّ. ووفقَ مَا يروِي تَارِيخُ أُسْرَةِ «هَان -Han»، كانتِ المدارسُ الفكريَّةُ المئةُ بمنزلة جَمْعٍ لمَا تَمَّ تعلُّمُه مِنَ المسؤولِينَ الحكوميِّينَ، كمَا كانتْ نظريَّاتُهم مجموعةً مِنَ الإبداعاتِ المرتكِزَةِ إلى أُسُسِ الحِكْمَةِ القديمةِ للـ«تَاو -Tao». واكتسبَ الكُونْفُوشيُوسيُّونَ معارفَهم في أوَّلِ الأمرِ مِنْ مُشْرِفي التَّعْلِيمِ الَّذينَ ساعدُوا الحُكَّامَ في تثقيفِ الرَّعيَّةِ ونشرِ أفكارِهمْ. كمَا أنَّ مشرفِي التَّعليمِ قامُوا بتدريسِ الكلاسيكيَّاتِ القديمةِ ووضعُوا مواثيقَ شرفٍ أخلاقيَّةً. وقدْ تعلَّمَ التَاويُّونَ بدايَّةً مِنَ المؤرِّخِينَ الرَّسميِّينَ الَّذينَ وثَّقُوا انتصاراتِ وإخفاقاتِ الماضِي وتحقَّقوا مِنْ نماذجِ التَّطوُّرِ التَّاريخيِّ. وقامَ «المُوهِسْتِيُّونَ -Mohists» باستيعابِ أفكارِ مَعْبَدِ الحَافِظِينَ وقدَّمُوا نظريَّاتٍ مثلَ الحُبِّ الْجُزْئِيِّ وإِعْلَاءِ المُسْتَحقِّ. أمَّا مدرسةُ «يِنْ يَانْغ -Yin Yang» فنشأَتْ بالاعتماد على المُنجِّمِينَ الرَّسميِّينَ، بينما نشأَتْ مدرسةُ التَّقيُّدِ الحرفيِّ أو المُفرِطِ بالقانونِ، أوْ بشرعٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ، بفضل الإداريِّينَ القانونيِّينَ. وكانَ مِنَ الطَّبيعيِّ أنْ يقودَ مدرسةَ الدِّبلوماسيِّينَ دِبلوماسيُّو الدَّولةِ، وأنْ يقودَ مدرسةَ التَّنوُّعِ استشاريُّو الحكومةِ. وعزَّزَ هذَا التَّنوُّعَ الفلسفيَّ وعيٌ مُتنامٍ بعموميَّةِ الأُمَّةِ ووَعْيٌ آنيٌّ بالقيمِ الأخلاقيَّةِ. وأصبحتْ معانِي تَاوْ (طريقة) وتِي (فضيلة) القضيَّةَ المركزيَّةَ للنِّقاشِ الفلسفيِّ في ذلِكَ الوقتِ، وهذا تقدُّمٌ مُهمٌّ علَى الهاجِسِ السَّابِقِ معَ تَفْوِيضِ السَّماءِ. كمَا قدَّمتْ كثيرٌ مِنَ المدارسِ نظريَّاتِها الخاصَّةَ حول تَاوْ (طريقةٍ) في السَّماءِ، والأرضِ، والإنسانِ، وفضائلِ «يِنْ وِيَانْغ -Yin Yang»، والخَيْرِيَّةِ وَالصَّوَابِ مِنْ بينِ أشياءَ أُخرَى. وقدْ تمَّ تمهيدُ الطَّريقِ لمناقشةِ تَاوْ (طريقةٍ) وتِي (فضيلةٍ) مِنْ خلالِ مذهبِ الطَّاوِيَّةِ الَّذي استمدَّتْ منْه الفلسفةُ الصِّينيَّةُ جذورَها. وقد ألمحَ يوماً المؤرِّخُ الشَّهيرُ «سِيمَا تشِيَان -Sima Qian» إلى أنَّ أوَّلَ مَنْ عَرَضَ لنقاشِ تَاوْ وتِي كانَ «لاوتسي -Laozi» في كتابٍ يحوي أكثرَ مِنْ 5,000 شَخْصِيَّةٍ. وهذَا الكتاب هو: تَاوْ تِي تشينغ، وهو يعزوُ ثلاثَ خصائصَ لِـ«تَاو -Tao» هي: نشأةُ كلِّ الأشياءِ الَّتي سبقتْ حتَّى وجودَ الإلهِ العُلويِّ، فراغٌ كليُّ القدرةِ يُوحِّدُ «يِن -Yin» و«يَانْغَ -Yang» بانسجامٍ، وقوَّةٌ غيرُ ملموسةٍ تصدرُ عنهَا احتمالاتٌ لا محدودةٌ. خلاصةُ القولِ: قامَ «لاوتسي -Laozi» بشرحِ تَاوَ بمنهجِ المذهبِ الطَّبيعيِّ وأَجَلَّه بطريقةٍ لا حركيَّةٍ. وقامَ «تشوَانْغِزِي -Zhuangzi» بتطويرِ نظريَّةِ «لاوتسي -Laozi» فوصفَ تَاو بأنّهُ فراغٌ لا يقبلُ النَّفادَ بِعَاطِفَةٍ وإِخْلَاصٍ لكنْ دُونَ حركةٍ أو شكلٍ. وقدِ اعتقدَ أنَّ تَاوَ يحملُ جذورَه داخلَه وسبقَ وجودُه السَّماءَ والأرضَ. وعلى العكسِ مِنْ ذلِكَ، تعامَلَ الكُونْفُوشيُوسيُّونَ معَ تَاو بطريقةٍ أكثرَ نشاطاً فشجَّعَ «كُونْفُوشْيُوسُ -Confucius» أتباعَه على أنْ يطمحُوا إلى تَاو، ويتمسَّكُوا بالفضيلةِ، ويتَّكِلُوا على مبدأ الإنسانيَّةِ، ويستمتعُوا بالفنونِ. بعبارةٍ أُخرَى، دافعَ «كُونْفُوشْيُوسُ -Confucius» عنْ فهمِ تَاوَ وإثراءِ الفضيلةِ. وبالرَّغمِ مِنْ وجودِ الانحطاطِ الأخلاقيِّ إبَّانَ هذِه الفترةِ، استمرَّ «كُونْفُوشْيُوسُ -Confucius» في دعوةِ الإنسانِ إلى الفضيلةِ، حتَّى إنْ كانَ واعياً بوجودِ تحدِّياتٍ لا تُذلَّلُ، فقدِ اعتقدَ أنَّ الإنسانَ يستطيعُ أنْ يُبجِّلَ تَاوَ لكنَّ تَاوَ لا يُعلِي الإنسانَ. وقدْ صاغَ هذَا الاعتقادُ المبدأَ الرَّئيسَ للفلسفةِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ: «عَدَمُ التَّهاوُنِ في تَحْسِينِ الذَّاتِ». وأدخلَ «مِينسيُوسَ -Mencius» بعضَ التَّطويرِ على هذِه النَّظريَّةِ حين بيَّن أنّ: الخيريَّةَ هيَ مَا يجعلُ الإنسانَ بشريّاً. فعندِما يتجسَّدُ الخيرُ في سلوكِ الإنسانِ، يكمنُ تاو في عينَيْه، يمكنُ إثراءُ طَرِيقِ الِإنْسَانِ عبرَ حاسَّةِ العقلِ، ويمكنُ أنْ تتوحَّدَ معَ طَرِيقِ السَّماءِ. وبينَما رفضَ كلٌّ مِنْ لاوتسي و«تشوَانْغِزِي -Zhuangzi» الاعتقادَ بمبدأِ الجبريَّةِ (الاعتقادُ بالقضاءِ والقدرِ) في المعبوداتِ العليَا باحترامِ الطَّبيعةِ ومبدأِ الفِطريَّةِ، وأكَّدَ «كُونْفُوشيُوس -Confucius» و«مِينسيُوسَ -Mencius» قيمةَ الإنسانيَّةِ في الدِّفاعِ عنَ الفضيلةِ وسلوكِ مسلكِ الخيرِ. وبالرَّغمِ مِن المناهجِ المغايرةِ لكلٍّ مِنَ الكُونْفُوشيُوسيَّةِ والطَّاوِيَّةِ فكلاهُما تشارَكَ بعضَ الأهدافِ والنظريَّاتِ التَّكامُليَّةِ. فقدْ وَضَعَا معاً الإطارَ العامَّ الأساسيَّ للفلسفةِ التُّراثيَّةِ الصِّينيَّةِ. وجاءَتْ مجهوداتُ المدارسِ الأخرَى كعاملِ إثراءٍ لهذَا الإطارِ العامِّ، فركَّزتْ أيضاً على نقاشِ «تَاوْ -Tao» و«تِي -Te». على سبيلِ المثالِ، اعتقدَ «غُوَانْتسي -Guanzi» وأتباعُه أنَّ الحاكمَ يجبُ أنْ يُعلِّمَ ويغرِسَ في رعيَّتِه العملَ بكلٍّ مِنْ «تَاوْ -Tao» والفضيلةِ ليكونَ مجتمعُه مُتناغِماً.
طَرِيقُ السَّمَاءِ
هوَ استفهامٌ فلسفيٌّ حولَ طبيعةِ الكونِ. اعتقد معظمُ النَّاسِ إبَّانَ عصرِ أسرتَي شَانْغَ وتسو أنَّ السَّماءَ هيَ الإلهُ الأسمَى، وأطلقُوا عليهِ الإلهَ العُلويَّ. وبحسبِ رأيهِم، قرَّر هذَا الإلهُ كلَّ شيء. وحاولتْ طبقةُ النُّبلاءِ فكَّ مغالقِ أُمنياتِ هذَا الإلهِ ليخبرَهُم بأقدارِهِم، وسجَّلُوا النَّتائجَ على عظامِ الكاهنِ. وقُبيل أفولِ نجمِ أسرةِ شَانْغ ظهرَ نظامُ كِهانةٍ يستخدم الأشكالَ شبهَ السُّداسِيَّةِ في كِتَابِ التَّغْييراتِ. ولاحقاً، جاءَ التَّعليقُ علَى كتابِ التَّغييراتِ مُقدِّماً ستَّ ظواهرَ طبيعيَّةٍ كبرَى، فقدَ ناقشَ نشأةَ الكونِ وتطوُّرَه. في أسرةِ تسو الغربيَّةِ، أفسحَ الإيمانُ بالإلهِ العلويِّ المجالَ تدريجيّاً لمفهومٍ فلسفيٍّ هو: «تَفْوِيضُ السَّماءِ». وقدْ أدلَى «جِي دَانْ، دُوقْ تشو -Ji Dan,the Duke of Zhou» بِدَلْوِهِ في شأنِ تفويضِ السَّماءِ قائلاً: إنَّه ليسَ ثابتاً، وإنَّ السَّماءَ دائماً طيِّبةٌ معَ ذوِي الفضيلةِ، وهذا يُؤكِّدُ أهمِّيَّةَ السُّلوكِ الإنسانيِّ والفضيلةِ. وبعد أنْ فقدَ نظامُ «تشو -Zhou» عاصمتَه القديمةَ أخذَ بعضُ الشُّعراءِ بالتَّساؤلِ حولَ ماهيَّةِ تفويضِ السَّماءِ، بلْ قاموا أَيضاً بتوجيه اللَّومِ له على خسارةِ التَّوازنِ بينَ قوَى الأرضِ والسَّماءِ. وأخذَ الفكرُ الفلسفيُّ بالازدهارِ معَ بزوغِ فجرِ المدارس الفكريَّةِ المئة. وقامَ «مُوتسي -Mozi» بمعارضةِ فكرةِ الإيمانِ بقدريَّةِ تفويضِ السَّماءِ، مُستعيضاً عنهَا بمفهومٍ أكثرَ تعمُّقاً في مدرسةِ الفلسفةِ الإنسانيَّةِ ألَا وهوَ «نِيَّةُ السَّماءِ». ورَفَضَ «لاوتسي -Loazi» الاعتقادَ بأنَّ السَّماءَ هي القوَّةُ العظمَى، وحاولَ أنْ يبرهنَ أنَّ تَاوَ هوَ أصلُ كلِّ الأشياءِ، بَيْدَ أنَّ «غُوَانْتسي -Guanzi» اعتقدَ أنَّ الطَّاقةَ (جينغ -jing) والقوَّةَ (تشي -qi) همَا مصدرُ ورُوحُ الكَونِ، في حينِ أكَّدَ «شَانْتسي -Xunzi» أنَّ الإنسانَ لا بدَّ أنْ يُشدِّدَ على طريقُ السَّماءِ (القوانينِ الطَّبيعيَّةِ).
طَرِيقُ الإِنسَانِ
يُعدُّ طريقُ الإنسانِ نِقاشاً فلسفيّاً حولَ الحياةِ والإنسانيَّةِ. آمنَ دُوقْ تسو بأنَّ أهلَ الفضيلةِ فقطْ يمكنُهُم أنْ يُؤازِرُوا تفويضَ السَّماءِ، وقامَ بتدشين سلسلةٍ مِنَ الطُّقوسِ بُغيةَ ضبطِ النِّظامِ الاجتماعيِّ والسُّلوكِ العامِّ فأبدعَ نوعاً تبجيليّاً مِنَ الموسيقَى. وأصبحَ التَّأكيدُ على الإنسانيَّةِ والفضيلةِ واضحاً لا سيَّما في أواخرِ أسرةِ تسو الغربيَّةِ. واعتبرَ كُونْفُوشيُوسُ أنَّ المبدأَ الأرقَى في الإنسانيَّةِ هوَ الخيريَّةُ، وأصرَّ على المبدأِ القائلِ: لا ينبغِي عليكَ بحالٍ مِنَ الأحوالِ أنْ تتعاملَ معَ الناسِ بمَا لا تُحبُّ أن يعاملُوكَ بهِ. وقامَ بتعريفِ الخيريَّةِ على أنَّها كبحُ جماحِ الذَّاتِ والإذعانُ للشَّعائرِ، وهو ما جعل المفهومَ تحتَ تسلسلٍ هرميٍّ. وقدْ رفضَ موتسي هذَا المنهجَ، ودافعَ عَنِ الحبِّ الجزئيِّ والمصلحةِ المُتبادَلةِ. وانتهجَ «لاوتسي» منهجاً مُغايراً لكلَيْهِما، وحاولَ إثباتَ أنَّ الحياةَ ينبغِي أنْ تكونَ طبيعيَّةً وغيرَ قسريَّةٍ، واستلهمَ مِينِسْيُوسُ نظريَّةَ كُونْفُوشيُوس مُؤكِّداً على أربعِ فضائلَ للإنسانيَّةِ، هي: الخيريَّةُ، والصَّوابُ، والآدابُ العامَّةُ، والحكمةُ. وآمنَ «مِينسيُوسَ» بغريزيَّةِ وفطريَّةِ المبادئِ الأربعةِ الجيِّدةِ في الطَّبيعةِ الإنسانيَّةِ، الَّتي ميَّزَتْ بنِي البشرِ عنْ بقيَّةِ أجناسِ الحيواناتِ. إلَّا أنَّ «شونتسي -Xunzi» اعترضَ على ذلِكَ واحتجَّ برأيِهِ القائلِ إنَّ الشَّرَّ يكمنُ في الطَّبيعةِ البشريَّةِ مُعتقِداً أنَّ الإنسانيَّةَ ليستْ النَّتيجةَ المباشرةَ للطَّبيعةِ البشريَّةِ، ولكنَّها نتيجةُ تهذيبِها وتنقيحِها. ولذَا نجدُهُ انتقدَ غوانتسي أيضاً لأنَّه غامِضٌ فيمَا يتعلَّقُ بمفهومِ السَّماءِ للإنسانِ، لأنَّ الأخيرَ كانَ قدْ نصحَ أتباعَه ألَّا يقوِّضُوا دستورَ السَّماءِ بفعلٍ بشريٍّ، وألَّا يُبطِلُوا تفويضَ السَّماءِ مِنْ أجلِ أغراضٍ بشريَّةٍ.
العِلمُ والفِعلُ
يُعبِّرُ مصطلحُ العلمِ والفعلِ عنِ النِّقاشِ الفلسفيِّ الَّذي يبحثُ في مصدرِ المعرفةِ وغرضِها وطريقِ اكتسابِها. ورغمَ أنَّ «كُونْفُوشيُوس» اعتقدَ أنَّ أصحابَ المعرفةِ الفطريَّةِ، هُمُ الطَّبقةُ الأرقَى، لكنَّه أكَّدَ أيضاً أهمِّيَّةَ التَّعلُّمِ والتَّفكيرِ. وجاءَ «مِينِسْيُوس» ليؤكِّدَ مَا هوَ أبعدُ منْ ذلِكَ، فأعلَى منْ قيمةِ التَّفكيرِ الَّذي آمنَ بأنَّه دورُ حاسَّةِ العقلِ كمَا الحالُ نفسه معَ حواسِّ البصرِ أوِ السَّمعِ، فوظيفتُهُم هيَ السَّمعُ والبصرُ. وأسهبَ «شونْتسي -Xunzi» في بحثِهِ حول قضيَّةِ اكتسابِ المعرفةِ، ودافعَ عَنِ التَّعلُّمِ عبرَ عقلٍ منفتحٍ، وهادئٍ، ومتَّصفٍ بالتَّركيزِ. كمَا أكَّدَ ضرورةَ حلِّ التَّعقيداتِ. وقامَ مُوزِي بتقديمِ ثلاثةِ معاييرَ لإثباتِ صحَّةِ رأيٍ مَا: الخبرةِ السَّابقةِ، والإدراكِ العامِّ، ونتائجِ تطبيقِ ذلِكَ الرَّأي. وعلى أساسِ نظريَّتِهِ، صنَّفَ الموُهِسْتِيُّون المعرفةَ ضمنَ ثلاثةِ أنواعٍ، هي: المعرفةُ الَّتي تمَّ تعلُّمُها مِنَ المصادرِ الأُخرَى، وأشارتْ إليهَا الحقائقُ المعروفةُ، وتمَّ اكتسابُها بالخبرةِ البشريَّةِ. وقدْ أكَّدُوا أهمِّيَّةَ الأنواعِ الثَّلاثةِ مُجتمِعةً، واعترفُوا بالأدوارِ المختلفةِ لمراحلِ التَّعلُّمِ المختلفةِ. وميَّزَ مُوزِي البحثَ عَنِ المعرفةِ مِنَ البحثِ عَنْ تَاوَ، فأكَّدَ أنَّ هؤلاءِ الَّذينَ يبحثُون عَنِ المعرفةِ يَزيدُونَ معارفَهم زيادةً يوميَّةً، في حينِ أنَّ الباحثِينَ عنْ تَاوَ يُقلِّلُونَ الفعلَ تقليلاً يوميّاً، كمَا اعتقدَ أنَّ الإدراكَ غيرَ المتحيِّزِ يتطلَّبُ عقلاً مُتحرِّراً مِنَ الأهواءِ والرَّغباتِ، وتردَّدتْ تلكَ الفكرةُ على لسانِ «غُوَانْتسي -Guanzi»، الَّذي دافعَ عنْ تركِ الظُّنونِ غيرِ الموضوعيَّةِ حالَ البحثِ عنِ المعرفةِ.
الأَسْمَاءُ وَالفِعْلِيَّةُ - كَوْنُ الشَّيءِ فِعلِيّاً
بحثَ الصِّينيُّونَ عبرَ تراثِهمُ الفلسفيِّ حولَ الأشياءِ وعلاقتِها بمسمَّياتِها (العلاقةِ بينَ الشَّيءِ واسمِه). وغطَّى النِّقاشُ حولَ هذِه القضيَّةِ، في مرحلةِ مَا قبلَ «تِشين -Qin»، العديدَ مِنَ المجالاتِ مُشتمِلاً المفاهيمَ، وإصدارَ الأحكامِ، والاستنتاجَ، وجاءتِ النَّظريَّاتُ النَّاتِجةُ عنْ هذَا النِّقاشِ لتفتحَ البابَ للمنطقِ الصِّينيِّ. ونبَّه «لاوتسي -Laozi» إلى أنَّ ثمَّةَ علاقةً وثيقةً تربطُ الأسماءَ بمُسمَّياتِها محاوِلاً أنْ يُبرهِنَ أنَّ اسماً مَا ليسَ أبديّاً، وأنَّه ليسَ لـ«تَاو -Tao» اسمٌ. ثُمَّ أدخلَ «تشوَانْغِتسي -Zhuangzi» بعضَ التَّطويرِ علَى هذِه النَّظريَّةِ، وقد لاحظَ أنَّ الفعليَّةَ هيَ أصلُ الأسماءِ. كمَا بحثَ «هُوِي شِي -Hui Shi» أيضاً قضيَّةَ العلاقةِ الوثيقةِ خلالَ مَا أسمَاه المُتناقِضاتِ العشر، كوصفِ الشَّمسِ وقتَ الظَّهيرةِ بغروبِ الشَّمسِ. ومنْ خلالِ تلكَ المُتناقِضاتِ أبرزَ «هُوِي شِي -Hui Shi» قضيَّةَ العلاقةِ الوثيقةِ للتَّشابُهِ والاختلافِ بينَ الأشياءِ. ورغمَ أنَّ «غُونْغِسون لُونْغ -Gongsun Long» ناقشَ بعضَ المُتناقِضاتِ أيضاً، لكن انصبَّ اهتمامُه الأساسيُّ على العلاقةِ بينَ المفاهيمِ المُجرَّدةِ والأشياءِ الفعليَّةِ (أوِ الصِّفاتِ المُميِّزةِ). ومنْ خلالِ قولهِ: إنَّ حِصاناً أبيضَ ليسَ حصاناً، أكَّدَ الفرقَ بينَ اسمٍ مخصوصٍ واسمٍ عامٍّ. وكذَا مِنْ خلالِ قوله: إنَّ حجراً صُلباً لا يمكنُ أنْ يكونَ حجراً أبيضَ، أكَّدَ قابليَّةَ الانفصالِ بينَ الأسماءِ بسببِ اثنتَيْنِ منَ الصِّفاتِ المُميِّزةِ المُرتبطةِ بالاسمِ. وقالَ مُوتسي: إنَّ الاسمَ لا يحملُ بذاتِه قيمةً إلَّا إنْ كانَ مُعبِّراً بحقٍّ عنِ مبدأ الفعليَّةِ. وتَلا ذلِكَ تصنيفُ المُوهِسْتِيِّينَ للأسماءِ في ثلاثةِ مستوياتٍ، هي: الأسماءُ العامَّةُ، والأسماءُ التَّصنيفيَّةُ، والأسماءُ المخصوصةُ، كما اعتقدُوا أنَّ كلَّ مستوىً يتوافقُ معَ مجالٍ مُختلِفٍ مِنَ الفعليَّةِ. أمَّا عنْ «كُونْفُوشْيُوسَ -Confucius»، فقدْ دافعَ عنْ تعديلِ الأسماءِ مُؤكِّداً ضرورةَ أنْ يتَّسقَ كلُّ اسمٍ معَ الفعليَّةِ. وجاءَ «شونتسي -Xunzi» ليطوِّرَ تلكَ النظريَّةَ نحوَ مجموعةٍ مُفصَّلةٍ منْ قواعدِ التَّسميةِ. وقامَ باقتراحِ قواعدِ الإذعانِ للفطرةِ السَّليمةِ الثَّابتةِ والدِّلالةِ لتمثيلِ الفعليَّةِ: يجبُ أنْ تتشاركَ الأشياءُ المتطابقةُ نفسَ الاسم، بينما يجبُ أن تختلِفَ مُسمَّياتُ الأشياءِ المُتبايِنَةِ. وبناءً على ازدواجيَّةِ التَّشابُهِ والاختلافِ، صنَّفَ «شونتسي -Xunzi» الأسماءَ إلى عباراتٍ عامَّةٍ، وعباراتٍ تصنيفيَّةٍ فوقيَّةٍ، وعباراتٍ تصنيفيَّةٍ فرعيَّةٍ. ورغمَ ذلِكَ، آمَنَ «شونتسي -Xunzi» بوجودِ أكثرَ مِنْ ثلاثةِ مستوياتٍ، لأنَّ كلَّ فئةٍ تحتوِي بداخلِها على تصنيفاتٍ فرعيَّةٍ، كمَا رأَى أنَّه يجبُ قبل اختيار مُسمَّى شيءٍ البحثُ بدقَّةٍ في التَّصنيفاتِ الفرعيَّةِ لذلِكَ الشَّيءِ. كمَا قامَ «شونتسي -Xunzi» بتحليلِ ثلاثِ حيلٍ عامَّةٍ يستخدمُها السُّوفسطائيُّونَ، وهي: خلطُ الأسماءِ وثيقةِ الصِّلةِ لكنَّها في الوقتِ ذاتِهِ مختلفةٌ، وإضفاءُ صفةِ الغموضِ للحقائقِ المُعقَّدةِ، وتمييزُ الحقائقِ بأسماءٍ غيرِ دقيقةٍ. كانَ لنظريَّاتِ «شونتسي -Xunzi» أثرٌ في تلخيصِ الجدلِ حولَ الأسماءِ والفعليَّةِ في مرحلةٍ مَا قبلَ «تشين -Qin».
مِنْ «تشين» إلَى «تَانْغ»: التَّنَافُسُ بَيْنَ الْكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ وَالطَّاوِيَّةِ وَالْبُوذِيَّةِ
مرَّتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ بتطوُّرٍ مُهمٍّ منْذُ أسرةِ «تشين -Qin» حتَّى أسرةِ «تَانْغ -Tang». ويمكنُ تقسيمُ تلكَ المرحلةِ إلى ثلاثِ فتراتٍ، الأولى فترةُ أُسرتَيْ «تشين -Qin» و«هَان -Han»، والثَّانيةُ فترةُ أُسرَةِ «وِي -Wei» وأُسرةِ «جين -Jin» والأُسرِ الجنوبيَّةِ والشَّماليَّةِ، والثَّالثةُ فترةُ أُسرتَي «سُوِي -Sui» و«تَانْغ -Tang».
الفَلسَفَةُ فِي أُسْرَتَيْ تشين وَهَان
شهدتِ الأُسرتَانِ التَّكامُلَ التَّدريجيَّ للفلسفاتِ المختلِفةِ لفترةِ مَا قبلَ أسرةِ «تشين -Qin» في عامِ 221ق.م. لمْ تعمَلِ الإمبراطوريَّةُ المركزيَّةُ لأسرةِ «تشين -Qin» علَى إنهاءِ عصرِ الدُّولِ التَّابعةِ المنافسةِ فحَسبُ، بلْ قضَتْ على الحاجةِ السِّياسيَّةِ إلى فلسفاتٍ مُتبايِنةٍ. ومعَ تغيُّرِ الاحتياجاتِ السِّياسيَّةِ، طفتِ العديدُ مِنَ المدارسِ تِباعاً على سطحِ الهيمنةِ. وقدْ أثارتِ الحاجةُ إلى حكمٍ مركزيٍّ مسألةَ الشَّرعيَّةِ القانونيَّةِ باعتبارِها الفلسفةَ الرَّسميَّةَ لِـ«تشين -Qin». وفي أوائلِ عهدِ أسرةِ «هانَ -Han» تبنَّى النِّظامُ نهجَ عدمِ التَّدخُّلِ في مدرسةِ «هُوَانْغ لَاوْ -Huang Lao»، كمَا حاولَ التَّعافِيَ مِنْ وَيْلاتِ الحروبِ، وتجنُّبَ نفسِ المصيرِ الَّذي واجهَتْه أسرةُ «تشين»، الَّتي لمْ يدُمْ حكمُها طويلاً. وعندَما تولَّى الإمبراطورُ «وُو -Wu» من أسرة «هَان -Han» سدَّةَ الحُكمِ، الْتمسَ الأفكارَ الَّتي يمكنُ أنْ تُديمَ حُكمَ أسرتِه. وفي مقتَرحٍ قُدِّمَ للإمبراطورِ، اقترحَ «دُونْغ تُشُونْغ شو -Dong Zhongshu» الْكُونْفُوشْيُوسِيَّةَ كأحدِ المفاتيحِ لحلِّ هذَا الأمرِ. اعتمدَ الإمبراطورُ هذَا الاقتراحَ، واتَّخذَ قراراً بجعْلِ الْكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ فلسفةً رسميَّةً حصريَّةً، وكلَّفَ العلماءَ الإمبراطوريّين بنشرِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الكلاسيكيَّةِ. وفي تلكَ الأثناءِ، تمَّ استيعابُ ودمجُ عناصرَ لمدارسَ أخرَى في الفلسفاتِ الرَّسميَّةِ. وعلى الرَّغمِ مِنْ أنَّ مدرسةَ «هُوَانْغ لَاو -Huang Lao» كانتْ تُعدُّ فرعاً للطَّاوِيَّةِ، إلَّا أنَّها استوعبتِ العديدَ مِنَ الأفكارِ مِنَ المدارسِ الأُخرَى، وخاصَّةً الكُونْفُوشْيُوسِيَّةَ والمُوهِيُوِيَّةَ والشَّرْعِيَّةَ الْقَانُونِيَّةَ ومدرسةَ «يِينْ يَانْغَ» ومدرسةَ الجرَّاحِين. حتَّى إنَّ «دُونْغ تُشُونْغ شو -Dong Zhongshu» -وهوَ أحدُ المُتحمِّسِينَ بشدَّةٍ للكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ- أدرجَ أيضاً عناصرَ غيرَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ في نظريَّاتِه الخاصَّةِ. وبشكلٍ عامٍّ، تميَّزَ عهدُ أسرةُ «هَان -Han» بالتَّنميةِ الإبداعيَّةِ للفلسفةِ لدَى الصِّينيِّينَ. وفي المناقشةِ الأكاديميَّةِ كانتِ القضيَّةُ المركزيَّةُ في ذلِكَ الوقتِ هيَ التَّفاعُلُ بينَ السَّماء والإنسانِ.
التَّفَاعُلُ بَينَ السَّمَاءِ وَالإِنْسَانِ
ذكرَ «دُونْغ تُشُونْغ شو -Dong Zhongshu» أنَّ الجنَّةَ والإنسانَ يمكنُ أنْ يتفاعلَا معَ بعضِهِما. ولدعمِ نظريَّتِه، قدَّم مقترَحين أساسيَّين. يرى المُقترَحُ الأوَّلُ أنَّ الطَّريقَ الملكيَّ يربطُ بينَ السَّماءِ والأرضِ والإنسانِ، فرفضَ هذَا المُقترَحُ اعتقادَ مَا قبلَ أسرةِ «تِشين»، الَّذي نفَى مثلَ هذِه الصِّلةِ، وأثبتَ سيادةَ الملكيَّةِ الفكريَّةِ الأيديولوجيَّةِ. ويرى المقترحُ الثَّانِي أنَّ السَّماءَ والإنسانَ مِنْ نفسِ النَّوعِ. وفي رأيِه، إنَّ السَّماءَ مسؤولةٌ عنِ الحُكمِ، بلْ هيَ ضمانةٌ للحُكمِ الرَّشيدِ على الأرضِ، فإذَا فشلَ الحاكمُ في أداءِ واجباتِه دُقَّ جرسُ الإنذارِ في صورةِ عددٍ مِنَ المصائبِ فيُجبَرُ على تصحيحِ أخطائِه. لقدْ كانتْ هذِه محاولةً مثاليَّةً لإيجادِ توازنٍ تامٍّ بينَ القوَّةِ المُطلَقةِ للحكمِ وبعضِ الضَّوابطِ الضَّروريَّةِ في عملِه. في عهدِ أسرةِ «هَان -Han» الشَّرقيَّةِ، ردَّدَ هذِه النظريَّةَ مجموعةٌ مِنَ الفلاسفةِ الَّذين جمعُوا بينَ كلاسيكيَّاتِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ واللَّاهوتِ والخرافاتِ. وتمثَّلَ السِّياقُ الأبرزُ في هذَا الموضوعِ في المناقشاتِ الشَّاملةِ في قاعةِ النَّمِرِ الأبيضِ. ومعَ ذلِكَ، وعندَما أصبحَ هذَا التَّقليدُ الهجين شائِعاً، رفضَ «وَانْغ تُشُونْغ -Wang Chong» هذِه النَّظريَّةَ باعتبارِها نظريَّةً خُرافيَّةً لا يُمكنُ التَّحقُّقُ منهَا، وأعادَ التَّأكيدَ على النَّهجِ الطَّبيعيِّ لمدرسةِ «هُوَانْغ لَاو -Huang Lao».
أَصْلُ الكَوْنِ
نقاشٌ فلسفيٌّ حولَ كيفيَّةِ خروجِ الكونِ إلى حيِّزِ الوجودِ. ذكرَ كتابُ (سيّد قبّعة الدرّاج -Master of Pheasant Cap)، فيمَا يتعلَّقُ بالكلاسيكيَّاتِ الفلسفيَّةِ لفترةِ مَا قبلَ أسرةِ تشين، أنَّ السَّماءَ والأرضَ وُلِدَتَا مِنْ رَحِمِ «يُوَان تِشِي -yuanqi». وقدْ تبنَّى هذَا الرَّأيَ معظمُ فلاسفةِ أسرةِ «هَان -Han». على سبيلِ المثالِ، تذكرُ كتاباتُ الأميرِ «هواينان -Huainan» أنَّ مَا تسبَّبَ في وجودِ هذَا الكونِ هوَ فراغٌ كبيرٌ، وهوَ أيضاً الَّذي تسبَّبَ في وجودِ «تشِي -qi». ويعتقدُ «دُونْغُ تُشُونْغ شو -Dong Zhongshu» أنَّ «يُوَان تشِي -yuanqi» تبوَّأَ مكاناً بينَ السَّماءِ والأرضِ، وأنَّ الانسجامَ الَّذي أوجدَه كانَ مؤشِّراً علَى الطَّريقِ الملكيِّ. واعتقدَ «وَانْغ تشُونْغ -Wang Chong» أيضاً أنَّ «يُوَان تشِي -yuanqi» كانَ يُمثِّلُ الفطرةَ، بلْ كانَ العنصرَ الأساسيَّ لكلِّ شيءٍ. وفي أواخرِ عهدِ أسرةِ «هَان -Han» خَلصَ «هُوِ شِيوِى -He Xiu» إلى أنَّ الشَّيءَ الرَّئيسَ هوَ «تشِي -qi»، لقدْ بدأَ على هيئةٍ غيرِ ملموسةٍ، ثُمَّ انقسمَ إلى أشياءَ ملموسةٍ. وقدِ اقترحَ «جينغُ فَانْغ -Jing Fang»، الَّذي درسَ كتابَ التَّغييراتِ وفقَ نهجٍ تنجيميٍّ، نهجاً مختلِفاً، وقامَ بتطبيقِ نظريَّتِهِ التَّنجيميَّةِ للتَّحقيقِ في أصلِ هذَا الكونِ، كما قامَ بتطويرِ عِلْمِ الكونِ المُعَقَّدِ.
جَسَدٌ وَرُوحٌ
مناقشةٌ فلسفيَّةٌ حولَ العلاقةِ بينَ جسدِ الإنسانِ ورُوحِه. يعتقدُ «هُوَان تَان -Huan Tan» أنَّ الجسدَ للرُّوحِ كالشَّمعةِ للنَّارِ. ومِنْ وجهةِ نظرِه، لا يمكنُ لأيِّ رُوحٍ أنْ تعيشَ دونَ وجودِ جسدٍ، تماماً كالنارِ الَّتي تُوقَدُ باستخدامِ شمعةٍ، فليس لهَا وجودٌ من دون هذِه الشَّمعةِ. ذكرَ «وَانْغ تشُونْغ -Wang Chong» أنَّ الطَّاقةَ تستديمُ معَهَا الحياةُ، والموتُ يستنزفُ الدَّمَ فيؤدِّي إلى التَّخلُّصِ مِنَ الطَّاقةِ، والموتَى لنْ يتحوَّلُوا إلى أشباحٍ.
التَّطَوُّرُ التَّارِيخِيُّ
وفي عهدِ أسرتَي «هَان -Han»، حقَّق العديدُ مِنَ الفلاسفةِ في القوانينِ الأساسيَّة للتَّطوُّرِ التَّاريخيِّ. فقدِ اعتقدَ «دُونْغ تشُونْغ شو -Dong Zhongshu» أنَّ نظامَ التَّاو الَّذي ظلَّ ثابتاً، هوَ الَّذي كانَ يوجِّهُه. وفي رأيِه، إنَّ التَّاو نظامٌ فطريٌّ مُتعلِّقٌ بالسَّماءِ، وبمَا أنَّ السَّماءَ ثابتةٌ، فإنَّ التَّاوَ ثابتٌ كذلِكَ. وبالتَّالِي يجب أنَّ تكونَ التَّغييراتُ في الأُسرِ الحاكمةِ في المظهرِ فحَسْبُ، وفي شكلِ تناوُبٍ بينَ الألوانِ (الأسودِ والأبيضِ والأحمرِ). ومع ذلِكَ، اعتقدَ «سِيمَا تشيان -Sima Qian» أنَّه لا يمكنُ للتَّاو أنْ يُؤثِّرَ في التَّطوُّرِ التَّاريخيِّ، وأكَّدَ على الدَّورِ الَّذي يُؤدِّيه الرِّجالُ في ذلِكَ. ومنْ خلالِ دراسةِ نجاحاتِ وإخفاقاتِ الأشخاصِ البارزِينَ، سعَى للوصولِ إلى أسبابِ صعودِ وانهيارِ كلِّ أسرةٍ مِنَ الأُسرِ الحاكِمةِ. وتذكرُ كتاباتُ الأميرِ «هُوَايْنَان -Huainan» أنَّ التَّطوُّرَ التَّاريخيَّ يتوافقُ دائماً معَ ظروفِ الوقتِ. واعتقدَ «وَانْغ تشُونْغ -Wang Chong» أنَّ الحاضِرَ أفضلُ مِنَ الماضِي، وحقَّقَ في الجذورِ الاقتصاديَّةِ للتَّغيُّراتِ الأُسريَّةِ. وفي عهدِ أسرةِ «هَانَ -Han»، رفضَ «تشُونْغ تشَانْغ تُونْغ -Zhong Changtong» فكرةَ السُّلطةِ المُقدَّسةِ للحُكمِ، لأنَّهُ لا يمكنُ لأيَّةِ أُسرةٍ حاكمةٍ الفرارُ مِنْ دورةِ الصُّعودِ والانهيارِ، وقد سَمَّى هذه الدَّورةَ: القانونَ العظيمَ للتَّطوُّرِ التَّاريخيِّ.
الطَّبِيعَةُ البَشَرِيَّةُ
قدَّمَ التَّحقيقُ الفلسفيُّ للطَّبيعةِ البشريَّةِ الأُسسَ النَّظريَّةَ لدراسةِ الأخلاقِ. وقدْ سبقَ مثلُ هذَا التَّحقيقِ عصرَ أسرةِ تشين. لاحظَ «كُونْفُوشيُوس -Confucius» ذاتَ مرَّةٍ: أنَّ الرِّجالَ مُتشابهُونَ تقريباً بالفطرةِ، إلَّا أنَّ أفعالَهم مُختلِفةٌ بشكلٍ كبيرٍ. يعتقدُ «مِنسْيُوسُ -Mencius» أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ كانتْ حسنةً، في حينِ اعتقدَ «تشونتسي -Xunzi» أنَّها كانتْ شرِّيرةً. أمَّا «غَاوْتسي -Gaozi» (غَاوْ بُوهَاي -Gao Buhai) فقدْ تبنَّى رأياً وسطاً، فقالَ عنهَا: ليستْ حسنةً ولا شرِّيرةً. وفي عهدِ أسرةِ «هَانَ -Han»، اعتقدَ العديدُ مِنَ الفلاسفةِ أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ اختلفَتْ بينَ الأفرادِ. وبالتَّالِي، قامُوا بتصنيفِ النَّاسِ وفق طبيعتِهم البشريَّةِ إلى درجاتٍ مُختلِفةٍ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، وكانُوا يعتقدُونَ أنَّ أعلَى الدَّرجاتِ وأدْناهَا لا تتغيَّرُ إلَّا قليلاً، لذلِكَ شدَّدُوا على ضرورةِ أنْ تكونَ التَّربيةُ على هذَا النَّهجِ الوسطيِّ. لقدْ اعتقدَ «دُونْغ تشُونْغ شو -Dong Zhongshu» أنَّ السَّماءَ هيَ الَّتي أنعمَتْ على الطَّبيعةِ والرَّغبةِ البشريَّةِ بظلالِ رحمتِها. وفي رأيِه، إنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ تميلُ إلى كلِّ مَا هوَ حسنٌ، في حينِ أنَّ رغبةَ الإنسانِ تميلُ إلى الشَّرِّ. وبناءً على هذَا قام بتصنيف النَّاسِ إلى ثلاثِ فئاتٍ، هي: الإنسانُ الذَّكيُّ الَّذي تفوقُ طبيعتُهُ رغبتَهُ الشَّخصيَّةَ، والإنسانُ الشِّريرُ الَّذي تغلبُ رغبتُه الشَّخصيَّةُ طبيعتَه البشريَّةَ، والإنسانُ الوسطُ بينَ هذَا وذاكَ، الذي تتساوَى طبيعتُه ورغبتُه. ولتحسينِ الإنسانيَّةِ، لا سيَّما بالنِّسبةِ إلى الشَّخصيَّةِ الوسطيَّةِ، دعَا إلى التَّعليمِ باعتبارِه وسيلةً لترسيخِ الطَّبيعةِ والتَّنظيمِ وسبيلاً لتَحقُّقِ الرَّغبةِ. يعتقدُ «يَانْغ شُيُونْغ -Yang Xiong» أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ مزيجٌ من الخيرِ والشَّرِّ، لذَلك اقترحَ غرسَها منْ خلالِ الإحسانِ والبرِّ والأدبِ والحكمةِ والنَّزاهةِ. يعتقدُ «وَانْغ تُشُونْغ -Wang Chong» أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ وُلِدتْ مِنْ رَحِمِ «يُوَان غي -Yuan gi»: ولأنَّ «يُوَان غي» يختلفُ في كثافتِه، فإنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ تختلفُ أيضاً في جَوْدتِها.
الفَلسَفَةُ منذُ عهد أُسرةِ «وي» حَتَّى السُّلَالَاتِ الجَنُوبِيَّةِ
شهِدَتْ هذِه المرحلةُ صعودَ وهبوطَ الميتافيزيقيَا، فكانَ هذا العصرُ عصرَ الانقسامِ، بسبَبِ كثرةِ التَّغيُّراتِ في الأُسرِ الحاكمة، وتفشِّي الحروبِ الأهليَّةِ. تحتَ وطأةِ التَّهديدِ بالفوضَى والاضطرابِ، استيقظَ الوعيُ الفرديُّ منْ سُباتِه، فأثارَ الحيويَّةَ والابتكارَ الفلسفيَّ، وازدهرتِ البوذيَّةُ والطَّاوِيَّةُ الَّتي كانتْ لهَا جاذبيَّةٌ بصورةٍ تبعثُ على الطُّمأنينةِ. وقدْ تحوَّلتِ الميتافيزيقيَا، الَّتي كانتْ موضوعاً هامِشيّاً في الماضِي، إلى اتِّجاهٍ سائِدٍ معَ تركيزِها علَى دراسةِ الغموضِ. وقدْ كانَ «هُو يَان -He Yan» رائدَ عصر الميتافيزيقيَا، إذ شرحَ مفاهيمَ كُونْفُوشْيُوس باستخدامِ أفكارِ الطَّاوِيَّةِ. اتَّخَذَ «وَانْغ بِي -Wang Bi» أيضاً نهجاً إبداعيّاً لشرحِ مبادئِ «لاوتسي -Laozi» وكتابِ التَّغييراتِ، وعلى النَّقيضِ منْ فلاسفةِ أسرةِ «هَان -Han»، الَّذينَ شرحُوا الكتبَ باستخدامِ صورٍ وأرقامٍ، ودعَا إلى اكتسابِ المعانِي ونسيانِ الصُّورِ. وقدْ اتَّبَع هذا النَّهجَ «شِيَانْغ شيوِي -Xiang Xiu» و«غُوه شِيَانْغ -Guo Xiang»، فشرحَ كلٌّ منهُما مبادِئَ «سوانغ تسي -Zhuangzi»، في محاولة منهم لإظهارِ روحِ السَّعادةِ والانغماسِ في مجالِ الغموضِ. وكانَ «شِيَانْغ شِيوُي -Xiang Xiu» –وهو أحدُ الحكماءِ السَّبعِة في غاباتِ الخيزُرانِ- مشهوراً بتمرُّدِه على التَّعاليمِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الأُرثوذُكسيَّةِ. وبتحرير هذِه التَّعاليمِ من القيود الخانقة، تنفَّسَتِ الصُّعداءَ وانطلقتْ نحو حياةٍ جديدةٍ مِنَ التَّطورِ الفلسفِيِّ. تميَّزَ صعودُ الميتافيزيقيَا بالعودةِ إلى هيمنةِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الأُرثوذكسيَّةِ في عهدِ أسرةِ «هَانَ -Han»، وإِنَّ انشغالَها بدراسةِ الغموضِ أدَّى إلى تهميشِ السَّعيِ إلى معرفةٍ أوسعَ نطاقاً. وبعدَ عهدِ أسرةِ جين، انخفضَتْ تدريجيّاً وامتزجتْ بالبوذيَّةِ الَّتي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ، وأصبحَتْ دِينَ الدَّولةِ الفعليَّ بالنِّسبةِ لأُسرِ الجنوبِ. وفي هذِه الأثناءِ، تحوَّلتِ الطَّاوِيَّةُ الفلسفيَّةُ أيضاً إلى دِينٍ.
الكينُونةُ واللَّاكيْنُونَةُ
جدلٌ فلسفيٌّ حولَ جوهرِ الكونِ. أعربَ كلٌّ مِنْ «هُو يَان -He Yan» و«وَانْغ بِي -Wang Bi» عنِ اعتقادِهِم بأنَّ اللَّاكينونةَ هيَ الجوهرُ الأساسيُّ للكونِ. ورأَيَا أنَّ اللَّاكينونةَ كانتْ بعيدةً عنِ الاسمِ والشَّكلِ، ومطلقةً وقادرةً علَى إنجازِ أيِّ شيءٍ، والأساسَ لوجودِ الكينونةِ. ومعَ ذلِكَ ذَكَرَ «بِى وِي -Pei Wei» أنَّ كلَّ الأشياءِ وُلِدتْ مِنْ رَحِمِ الكينونةِ، وتولَّدتْ هيَ بذاتِها. أيَّدَ «غُوه شِيَانْغ -Guo Xiang» هذَا الادِّعاءَ، وأكَّدَ عفويَّةَ الإنتاجِ الذَّاتيِّ، والتَّحوُّلَ الذَّاتيَّ للأشياءِ. إنَّ الأشياءَ -بحسَبِ رأيِهِ- تأتي لتكونَ بالصُّورةِ الَّتي هي عليْهَا، لذلِكَ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يتساءَلَ عنْ سببِ الكينونةِ.
التَّعَالِيمُ والطَّبِيعَةُ الأُرْثُوذُكسِيَّةُ
الحجَّةُ الفلسفيَّةُ حولَ العلاقةِ بينَ التَّعاليمِ الأُرثوذكسيَّةِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ واحترامِ الطَّاوِيَّةِ للطَّبيعةِ. ناقشَ «وَانْغُ بِي -Wang Bi» القضيَّةَ مِنْ منظورِ اللَّاكينونةِ والكينونةِ، ورأى أنَّ الطَّبيعةَ كانتْ أساسَ إرساءِ مثلِ هذِه التَّعاليمِ، كما أنَّ اللَّاكينونةَ كانتْ أساسَ وجودِ الكينونةِ. وبناءً على ذلكَ أنكرَ وجودَ تناقُضٍ بينَ الاثنَيْنِ، إلَّا أنَّه أكَّدَ وجوبِ اتِّباعِ «مِنْغِيَاو -mingjiao» لطريقِ الطَّبيعةِ. وحاولَ «شِيَانْغ شيوِي -Xiang Xiu» أنْ يوفِّقَ بينَ أَوْجُهِ اختلافِ هذه التعاليم عن الطَّبيعةِ، بحجَّةِ أنَّ كلّاً مِنَ الكُونْفُوشيُوسيَّةِ والطَّاوِيَّةِ موضوعٌ مُشترَكٌ. بلْ ذهبَ «غُوه شِيَانْغ -Guo Xiang» إلى أبعدَ مِنْ ذلِكَ حين ذكرَ أنَّ اتِّباعَ مثلِ هذِه التَّعاليمِ كانَ اتِّباعاً للطَّبيعةِ. ويرَى أنَّ وجودَ الأشياءِ كانَ طبيعيّاً، وأنَّ الأمورَ الاجتماعيَّةَ الهرميَّةَ والمبادئَ الأخلاقيَّة كانتْ مُتوافِقةً معَ الطَّبيعةِ والسَّماءِ. وقالَ أيضاً: إنَّ الحكماءَ كانُوا مُنشغلِينَ ظاهريّاً بواجباتِهمُ الدُّنيويَّةِ، لكِنَّهُم داخليّاً مُنشغِلُونَ بالتَّفكُّرِ العميقِ. وبعبارةٍ أُخرَى: إنهم اتَّبعُوا مثلَ هذِه التَّعاليمِ في واجباتِهمُ الدُّنيويَّةِ لكِنَّهُم اتَّبعُوا الطَّبيعةَ في حياتِهمُ الخاصَّة، وبناءً على ذلك، اعتقَدَ «غُوه شِيَانْغ -Guo Xiang» أنَّ لا حاجةَ للفصلِ بينَ الاثنَيْنِ كالمُتناقِضاتِ. ومعَ ذلِكَ، رأَى «جِي كَانْغ -Ji Kang» و«رُوَانْ جِي -Ruan Ji» أنَّه لا يمكنُ التَّوفيقُ بينَهُما مع وجودِ هذَا التَّناقُضِ، واعتقَدُوا أنَّ مثلَ هذِه التَّعاليمِ كانتْ مُكبِّلةً للبشريَّةِ، ويجبُ التَّخلُّصُ منْهَا لصالحِ الطَّبيعةِ.
اللُّغَةُ وَالمَعْنَى
جدلٌ فلسفيٌّ حولَ العلاقةِ بينَ اللُّغةِ والفكرِ والمعلوماتِ والحقيقةِ. في التَّعقيبِ علَى كتابِ التَّغييراتِ ذُكِرَ أنَّ الكتابةَ لا يمكنُ أنْ تُحيطَ إحاطةً شاملةً باللُّغةِ، ولا يُمكنُ للُّغةِ أنْ تُحيطَ إحاطةً شاملةً بالمعنَى. لذَا ابتكرَ الحكيمُ الصُّورَ (السُّداسيَّاتِ). ونتيجةً لذلِكَ، ذكرَ «وَانْغ بِي -Wang Bi» أنَّ الجوهرَ الحقيقيَّ تمثَّلَ في المعانِي وليسَ في الكلماتِ أوِ الصُّورِ. كمَا يرَى أنَّ الكلماتِ مَا هيَ إلَّا ترجمةٌ للصُّورِ، وأنَّ الصُّورَ تحملُ في طيَّاتِها المعانِيَ. وبالتَّالي، دعَا إلى فهمِ الصُّورِ ونسيانِ الكلماتِ واكتسابِ المعانِي ونسيانِ الصُّورِ. ومعَ ذلِكَ، فقدْ أغفَلَ دوراً مُهِمّاً للكلماتِ والصُّورِ: فهيَ قدْ تُساعدُ علَى تعزيزِ فهمِ معانيها الأساسيَّةِ. وفي المقابِلِ، ذكرَ «أُويَانْغ جِيَان -Ouyang Jian» أنَّ اللُّغَةَ كانتْ كافيَةً للتَّعبيرِ عنْ كلِّ الأفكارِ والمفاهيمِ. ويرَى أنَّ الأسماءَ يمكنُ أنْ تتغيَّرَ لتتناسبَ معَ الأشياءِ المُسمَّاةِ، وأنَّ الكلماتِ يمكنُ أنْ تتغيَّرَ لتطابقَ المبادئَ المُصاغةَ تماماً مثلَ صدَى الاستجابةِ للصَّوتِ ذِي الصَّدَى.
الجَسَد وَالرُّوح
مناقشةٌ فلسفيَّةٌ حولَ إمكانِيَّة بقاءِ الرُّوحِ على قيدِ الحياةِ دونَ الجسدِ. تؤمنُ البوذيَّةُ بتأثيرِ الكَارْمَا خلالَ تناسُخِ الشَّخصِ، وتعنِي أنَّ رُوحَه تُبعثُ مِنْ جديدٍ بعدَ موتِه. وقدْ رفضَ «فَانْ تشِن -Fan Zhen» هذَا المُعتقَدَ منْ قَبْلُ في رسالتِه الشَّهيرةِ، تَدْمِيرُ الرُّوحِ، فرأى أنَّ الجسدَ هوَ جوهرُ الرُّوحِ، لأنَّ الرُّوحَ كانتْ تُمثِّلُ إحدَى وظائفِ الجسمِ، ولا يُمكنُ للوظيفةِ (الرُّوحِ) أنْ توجدَ من دونِ وجودِ المادَّةِ (الجسمِ). أمَّا الطَّاويُّونَ فقدْ رأَوُا القضيَّةَ مِنْ منظورٍ مُختلِفٍ. ويعتقدُ «غِي هُونْغ -Ge Hong» أنَّ الجسمَ يحتاجُ إلى الرُّوحِ لكَي يزدهرَ، ودعَا إلى زراعةِ الجسدِ والرُّوحِ لإطالةِ العمرِ، بهدف الوصولِ بمثاليَّةٍ إلى النُّقطةِ الَّتي يكونُ عندَها الخلودُ. وقدْ آمَنَ بهذَا المُعتقَدِ العديدُ مِنَ الطَّاويِّينَ في ذلِكَ الوقتِ، مثلِ «كُو شيانتزي -Kou Qianzhi» و«تَاوْ هُونْغ جينغ -Tao Hongjing»، اللَّذَيْنِ أصبحَ كلٌّ منهُما خِيميائيّاً خالصاً بحثاً عنْ إكسيرِ الخلودِ.
الفَلسَفةُ فِي أُسْرَتَي سُوِي وتَانْغ
في عهد هاتين الأُسرتَيْنِ الحاكِمتَيْنِ، كانَ كلٌّ مِنَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ والطَّاوِيَّةِ والبوذيَّةِ تُؤثّرُ بطريقتِها الخاصَّةِ، فقدْ تنافسُوا في وئامٍ، وامتزجَ كلُّ واحدٍ منهُما بالآخرِ نوعاً مَا. وبلغَ هذَا الاتِّجاهُ ذروتَه في أَوْجِ ازدهارِ أسرةِ «تَانْغ -Tang»، أيْ في عصرِ ازدهارِ الاقتصادِ وانفتاحِ المجتمعِ. لمْ تحافظِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةُ علَى دورِها في التَّوجِيهِ الأخلاقيِّ وفقَ اللَّوائحِ الحكوميَّةِ والاختباراتِ الملكيَّةِ وشؤونِ الأسرةِ فحَسبُ، بلْ تلقَّتْ دعماً في الأدبِ بفضلِ حركةِ الكلاسيكيَّاتِ القديمةِ بقيادةِ «هَان يُو -Han Yu» و«لِيُو تُسُونْغ يُوَان -Liu Zongyuan». ومَع ذلِكَ، فإنَّ نقصَ الابتكارِ الفلسفيِّ حدَّ مِنْ تطوُّرِها. ولاقتِ الطَّاوِيَّةُ استحسانَ العائلةِ المالكةِ الَّتِي ادَّعتْ أنَّها من أحفادُ «لاوتسي -Laozi». ومعَ ذلِكَ، فإنَّ النَّظريَّاتِ الدِّينيَّةَ للطَّاويَّةِ كانتْ لا تزالُ في مهدِها، ولا يمكنُ لهَا أنْ تتوافقَ مع هذَا العمقِ الَّذي تتمتَّعُ بِه البوذيَّةُ، لذلِكَ استعارتْ بعضَ المفاهيمِ الأيديولوجيَّةِ والنَّماذجِ المنطقيَّةِ منَ البوذيَّةِ. فكانتِ البوذيَّةُ هيَ من تقودُ الِابتكارَ الفلسفيَّ في ذلِكَ الوقتِ، لأنَّها تفرعتْ إلى عدَّةِ مدارسَ لكلٍّ منهَا نظريَّاتُها الصِّينيَّةُ المُمَيَّزةُ، وتُركِّزُ معظمُ هذه النَّظريَّاتِ على طبيعةِ بُوذَا. وفي الوقتِ نفسِه، ناقشتِ الفلسفاتُ الثَّلاثُ أُصولَ الطَّبيعةِ والرَّغبةِ البشريَّةِ، ولمْ يُهيمنِ النِّقاشُ فقطْ على المشهدِ الفلسفيِّ في ذلِكَ الوقتِ، ولكنَّه أثْرَى أيضاً النَّظريَّاتِ الأساسيَّةَ للبوذيَّةِ الصِّينيَّةِ.
الطَّبِيعَةُ الْبُوذِيَّةُ
مناقشةٌ فلسفيَّةٌ ودينيَّةٌ حولَ الشُّروطِ والمتطلَّباتِ الخاصَّةِ بالبشرِ للوصولِ إلى الطَّبيعةِ البوذيَّةِ.
في هذَا العصرِ الذَّهبيِّ للبوذيَّةِ، تطوَّرَ الدِّينُ إلى عدَّةِ مدارسَ في الصِّينِ، بمَا في ذلِكَ «وَايْشِي -Weishi» و«تشَانُ -Chan» و«هُوَايَانُ -Huayan» و«تِيَانْتَاي -Tiantai». أمَّا مدرسةُ «وَايْشِي -Weishi» (أو الوَعْي - فحَسْبُ) -وهيَ فرعٌ أُسَّسَ وفقَ مبادئِ مدرسةِ يُوغَاكَارَا الهنديَّةِ البوذيَّةِ- فشدَّدتْ على أنَّ الوصولَ إلى الطَّبيعةِ البوذيَّةِ احتاجَ إلى تنويرِ الوعيِ. تَمثَّلَ «تشَانُ -Chan» و«هُوَايَانُ -Huayan» و«تِيَانْتَاي -Tiantai» مدارسَ البوذيَّةِ الصِّينيَّةِ، وقدْ اتَّفقُوا على مبدأِ الطَّبيعةِ البوذيَّةِ العالميَّةِ، ولكنِ اختلفُوا في التَّفاصيلِ الخاصَّةِ بشروطِ ومتطلَّباتِ الوصولِ إلى الطَّبيعةِ البوذيَّةِ. وشدَّدتْ مدرسةُ تشَان، الفرعُ الأكثرُ تميُّزاً في الصِّينِ، على السَّلامِ الدَّاخليِّ للطَّبيعةِ البوذيَّةِ. اعتقدَ أحدُ بطاركةِ البوذيَّةِ، ويُدعَى «هِيُونْيِنْغ -Huineng»، أنَّ التَّأمُّلَ غيرُ ضروريٍّ لأنَّ العقلَ البشريَّ وُلِدَ طاهراً، ودعَا إلى مُمَارسةِ الفضائلِ والبعدِ عنِ الرَّذائلِ الَّتي أصبحتْ صدَى الفلسفةِ الصِّينيَّةِ التَّقليديَّةِ. وأكَّدتْ مدرسةُ «هُوَايَانَ -Huayan» علَى الفطرةِ في الطَّبيعةِ البوذيَّةِ، مُؤكِّدةً أنَّها كانتْ تُمثِّلُ الطَّبيعةَ الفِطريَّةَ لدَى جميعِ الكائناتِ. وللوصولِ إلى الطَّبيعةِ البوذيَّةِ، دعَا إلى التَّأمُّلِ لإفراغِ الذِّهنِ مِنَ الرَّغباتِ والقلقِ. وأكَّدتْ مدرسةُ «تِيَانْتَاي -Tiantai» الشُّموليَّةَ في الطَّبيعةِ البوذيَّةِ، مُعتقدةً أنَّها موجودةٌ في كافَّةِ أنواعِ دَارْمَا. وبعدَ مُضيِّ منتصفِ عصرِ أسرةِ «تَانْغ -Tang»، أدرجَ «تسانْرَان -Zhanran» بكلِّ وضوحٍ الجمادَ عندَ التَّرويجِ لنظريَّةِ «تِيَانْتَاي -Tiantai». ووصلَ الأمرُ لدرجةٍ رأَى فيها أنَّ الطُّوبَ والحجارةَ لديهما طبيعةٌ بوذيَّةٌ، ولتحقيقِ الطَّبيعةِ البوذيَّةِ كانتِ المدرسةُ أكثرَ تنبُّهاً لمبدأِ التَّأمُّلِ منْ مدرسةِ «هُوَايَان -Huayan». وقدْ كانَ التَّحرِّي الفلسفيُّ ذو الصِّلةِ عبارةً عنْ تحقيقٍ كُونْفُوشْيُوسِيٍّ للطَّبيعةِ والعواطفِ البشريَّةِ، وقدِ استعملَ «كُونْغ يِينْغِدَا -Kong Yingda» الاستعاراتِ لشرحِ العلاقةِ بينَ الاثنَيْنِ: فالطَّبيعةُ البشريَّةُ (مثلُ الماءِ) كانتْ جوهرَ العواطفِ (مثلِ التَّموُّجاتِ)، وكانتِ العواطفُ ظواهرَ للطَّبيعةِ الإنسانيَّةِ. عرَّفَ «هَان يُو -Han Yu» الطَّبيعةَ البشريَّةَ بأنَّها فضائلُ أخلاقيَّةٌ (مثلُ الإحسانِ والبرِّ والأدبِ والحكمةِ والنَّزاهةِ)، وعواطفُ محدَّدةٌ كالحالاتِ العقليَّةِ (مثلِ المتعةِ والسُّرورِ والحزنِ والفرحِ والحبِّ والكراهيةِ والرَّغبةِ). كمَا صنَّفَ النَّاسَ أيضاً إلى ثلاثِ فئاتٍ: حسنٍ، وشرِّيرٍ، وشخصٍ وسطٍ بينَ الاثنَيْنِ (وكانَ يُؤمنُ بإمكانيَّةِ توجيهِهِ نحو صفةٍ أعلَى أوْ أدنَى).
وقدْ قامَ «لِي آوْ -Li Ao» -الَّذي ذكرَ أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ حسنةٌ، أمَّا الرَّغبةُ البشريَّةُ فشرِّيرةٌ- بتطويرِ هذِه النَّظريَّةِ فيمَا بعدُ. لقدْ وضعتْ نظريَّاتُ «هَانَ -Han» و«لِي -Li» الجذورَ الفكريَّةَ للجدلِ بشأنِ النِّيُو كُونْفُوشْيُوسِيَّةِ، وحولَ المبادئِ السَّماويَّةِ والرَّغباتِ الإنسانيَّةِ في عهد أُسرَتَيْ «سُونْغَ -Song» و«مينغ -Ming».
العَلَاقَةُ بَينَ السَّمَاءِ والإِنسَانِ
أعادَ كلٌّ مِنْ «لِيُو تُسُونْغ يُوَان -Liu Zongyuan» و«لِيُو يُوشِي -Liu Yuxi» البحثَ في العلاقةِ بينَ السَّماءِ والإنسانِ. ذكرَ «لِيُو تُسُونْغ يُوَان -Liu Zongyuan» أنَّ السَّماءَ كانتْ جماداً، ولمْ تتمكَّنْ مِنَ المكافأةِ على الإنجازاتِ أوِ المعاقبةِ على المخالفاتِ، كمَا كانَ يُعتقدُ أنَّ الشَّيءَ الوحيدَ الَّذي وُجدَ قبلَ خلْقِ السَّماءِ والأرضِ، كانَ نظامَ تشِي الأساسيَّ. واعتقدَ «لِيُو يُوشِي -Liu Yuxi» أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يحقَّقَ الانتصارَ على السَّماءِ في بعضِ الأحيانِ، لذلِكَ دعَا إلى مبادئَ أخلاقيَّةٍ وقانونيَّةٍ باعتبارِها طريقاً للمكافأةِ على الخيرِ والمعاقبةِ على الشَّرِّ، وانتقدَ أيضاً الاعتقادَ المُتمثِّلَ في التَّفاعلِ بينَ السَّماءِ والإنسانِ، مُدَّعياً أنَّ الاثنَيْنِ لا يمكنُ لهُما أنْ يتفاعلَا معَ بعضِهِما، وأنَّ السَّماءَ لا يمكنُها السَّيطرةُ على نظامِ الحكمِ الدُّنيويِّ، كمَا أنَّ الإنسانَ لا يمكنُه تغييرُ المواقيتِ.
مِنْ سُونْغ إلَى تشينغ: صُعُودُ النِّيُو كُونْفُوشْيُوسِيَّةِ
وصلتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ التَّقليديَّةُ إلى ذروتِها في عهدِ أسرةِ «سُونْغ -Song» و«مينغ -Ming». أعادتْ أسرتَا «سُونْغ -Song» و«مينغ -Ming» توحيدَ الصِّينِ بعدَ أكثرَ منْ قرنَيْنِ مِنَ الفوضَى والاضطرابِ، ما تسبَّبَ بحالةٍ مِنَ الاضطرابِ الاجتماعيِّ، والفسادِ الأخلاقيِّ والشُّعورِ بالإحباطِ والارتباكِ. ولمواجهةِ هذِه الأزمةِ الطَّاحنةِ، بدأَ جيلٌ جديدٌ مِنَ الفلاسفةِ الصِّينيِّينَ في إعادةِ بناءِ الأُسسِ الأخلاقيَّةِ والرُّوحِ الوطنيَّةِ. وقدْ كانَ التَّطوُّرُ الأبرزُ منْ قِبَلِ الكُونْفُوشيُوسيِّينَ الجددِ منْ سُلالَتي «سُونْغ -Song» و«مينغ -Ming»، إذ أدرجُوا أفكارَ الطَّاوِيَّةِ والبوذيَّةِ في الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الكلاسيكيَّةِ وأسَّسُوا نظاماً نظريّاً شاملاً. وكانَ «تشِنغ يِي -Cheng Yi» أحدَ روَّادِ هذَا الفكرِ، إذ قدَّمَ مفهومَ «تِيَانْ لِي» (وهوَ مبدأٌ سماويٌّ) حسبَ رؤيتِه الشَّخصيَّةِ. ومنذُ ذلِكَ الحينِ، أصبحَ «لِي» المفهومَ الأساسيَّ لعصرٍ جديدٍ مِنَ الفلسفةِ، شهدَ هيمنةَ «مدرسةِ المبادئ -School of Principle» الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ. وقدْ صبَّتِ المدرسةُ جُلَّ تركيزِهَا في الدِّراسة والبحث في كُلٍّ منْ: لِي (المبدأ)، وتشِي (القوَّةِ)، وشين (العقلِ)، وشينغ (الطَّبيعةِ البشريَّةِ). وضعَ هذَا علامةَ تحوُّلٍ كبرى عنِ التَّقاليدِ المُتَّبعَةِ، وغيَّرَ كثيراً مِنَ التَّصوُّراتِ السَّابقةِ: فأصبحَ التَّاوُ مِيتافيزيقِيّاً في نهايَّةِ المطافِ، وأصبحَتِ السَّماءُ والإنسانُ كتلةً مُوحَّدةً، وتحوَّلَ العالمُ الغامضُ إلى واضحٍ ومُنفتِحٍ، وأصبحَ العقلُ الرَّابطةَ الَّتي توحِّدُ الطَّبيعةَ البشريَّةَ والعواطفَ. في حينِ ازدهرَ عددٌ كبيرٌ مِنَ المدارسِ الفرعيَّةِ كانَ أبرزُها: («لِيَان -Lian» و«لُو -Luo» و«غُوَان -Guan» و«سُو -Su» و«تشين -Xin» و«شُو -Shu» و«مِين -Min» و«دَاوْنَان -Daonan» و«شيانغ شَان -Xiangshan» و«جينهُوَا -Jinhua» و«يُونْغِجِيَا -Yongjia» و«يُونْغ كَانْغ -Yongkang»)، وقدْ تنافسَتْ هذِه المدارسُ فيمَا بينَها وأثَّرَتْ ببعضِها، واستقصَتْ «لِي» منْ عدَّةِ جوانبَ مختلفةٍ باستخدامِ الأفكارِ الأصليَّةِ، ومثَّلتْ هذِه المدارسُ معاً العصرَ الذَّهبيَّ للفلسفةِ الصِّينيَّةِ، حيثُ كانتْ واسعةَ النِّطاقِ ودقيقةَ التَّفاصيلِ وذاتَ تراثٍ عظيمٍ شملَ 2000 سنةٍ خلَتْ، وقدْ كانتْ هذِه الأمورُ غيرَ مسبوقةٍ على مستوَى عددِ المدارسِ والإنجازاتِ.
لِيتشي (الْمَبْدَأُ وَالقُوَّةُ) وَدَاوْتشي (الطَّرِيقُ وَالْأَدَاةُ)
بحثٌ فلسفيٌّ في جوهرِ الكونِ. إنَّ المفاهيمَ «لِي -li» و«تشِي -qi» مفاهيمُ فريدةٌ منْ نوعِها في الفلسفةِ الصِّينيَّةِ. في الْنِّيُو كُونْفُوشْيُوسِيَّةِ، يُعدُّ «لِي» المبدأَ أوِ النَّمطَ، في حينِ أنَّ «تِشِي» هوَ الوجودُ الماديُّ أوِ الأداةُ. ويعتقدُ «تشَانْغ تساي -Zhang Zai» أنَّ كافَّةَ الأشياءِ والظَّواهرِ قدِ استقَتْ جذورَها مِنْ «تشِي». وقدِ انتَقدَ الاعتقادَ الطَّاويَّ القائلَ بأنَّ الكينونةَ قدْ وُلِدتْ منْ رحِمِ اللَّاكينونةِ، وبَيَّنَ أنَّ «تشِي» كانَ جوهرَ هذَا الكونِ. ويرَى أنَّ نظامَ «التَّاو» كانَ عاملَ تشتُّتٍ «لتشِي»، وأنَّ «لِي» يتحكَّمُ في تغييرِه. وقدْ طوَّر «وَانْغ أَنْشِي -Wang Anshi» فكرةَ تشِي مُدَّعِياً أنَّ «يُوَان تِشِي -yuanqi» (القوَّةَ الرَّئيسةَ) كانَ جوهرَ «تشُونْغ تشي -chongqi» (تشِي يوحِّدُ بينَ «يِن -yin» و«يَانْغ -yang»). وقدِ استعرضَ «تسو دِنيِي -Zhou Dunyi» أيضاً مفاهيمَ «يِن -yin» و«يَانْغ -yang» في كتابِه: تخطيطُ القوَّةِ المطلَقةِ. وقدَ نَتَجَ -وفق رأيِه- «التَّايْجِي -taiji» (الشَّاملُ) منْ يَانْغَ في حركتِه و يِن في سكونِه، وأدَّى التَّفاعُلُ بينَ يِن و يَانْغَ إلى خلقِ خمسةِ عناصرَ، نَتَجَ منها وجودُ كُلِّ الأشياءِ. لقدْ وضعَ كلٌّ مِنْ «تشِنغ هَاو -Cheng Hao» وشقيقِه «تشِنغ يِي -Cheng Yi» فلسفتَهُما حول مفهومِ «لِي»، والَّتي يُعتقَدُ أنَّها حكمَتْ كلَّ الوجودِ، كمَا اعتبرُوا أنَّ «لِي» يمتلكُ كلَّ السِّماتِ الطَّبيعيَّةِ والأخلاقيَّةِ. وادَّعَى «تشينغ هَاو -Cheng Hao» أنَّ السَّماءَ والمبادئَ شيءٌ واحدٌ، وقد ناقشَ عواملَ الاختلافِ والتَّماثُلِ بينَ الطَّريقِ (التَّاو) والأَدَاةِ. واعتقدَ «تشِنغ يِي -Cheng Yi» أنَّ تشِي كانَ يُمثِّلُ وجوداً ماديّاً في حينِ أنَّ المبدأَ كانَ يُمثِّلُ وجوداً ميتافيزيقِيّاً وهو المضمونُ النِّهائيُّ لكافَّةِ الأشياءِ. تشرَّبَ «تشُو شِي -Zhu Xi» نظريَّاتِ «تشَانْغ تساي -Zhang Zai» والأخوَيْنِ «تشِنغ -Cheng»، وأقرَّ أنَّ «لِي» أكثرُ عراقةً منْ «تشِي». كمَا أكَّدَ أنَّ «لِي -li» يُمثِّلُ التَّاوَ الميتافيزيقيَّ وهوَ جوهرُ كافَّةِ الكائناتِ، في حينِ أنَّ تشِي يُمثِّلُ الأداةَ المادِّيَّةَ، ومِنْ ثَمَّ اعتقدَ أنَّ «لِي» سبقَ كافَّةَ الأشياءِ والظَّواهرِ. وعندَ التَّعليقِ على الرَّسمِ التَّوضيحيِّ الشَّاملِ، عرَّفَهُ علَى أنَّه مثلُ «لِي». ومعَ ذلِكَ، فقدْ تحدَّى العديدُ مِنَ الفلاسفةِ في أسرتَي «مينغ -Ming» و«تشينغ -Qing» نظريَّاتِ «لِي -li» الأُوْلَى. وذكرَ «لُو تشين شون -Luo Qinshun» أنَّ «لِي» موجودٌ في «تشِي -qi»، وأنَّ تغييراتِ «تشِي -qi» هيَ الَّتي خلَّفتْ كلَّ الأشياءِ والظَّواهرِ، وكانَ «لِي» هوَ نمطُ هذِه التَّغييراتِ. واعتبرَ «وَانْغُ تِينْغِشِيَانْغ -Wang Tingxiang» «تشِي» ناقلاً مادِّيّاً لِـ«لِي»، وأصرَّ على أنَّ «لِي -li» لا يمكنُ أنْ يوجدَ من دونِ «تشِي -qi». قامَ «وَانْغ فُوتْسِي -Wang Fuzhi» بتطويرِ نظريَّاتِ «تشِي -qi» الأولَى إلى نظامٍ نظريٍّ شاملٍ، وقال: إنَّ وجودَ «لِي -li» يعتمدُ علَى «تشِي -qi»، وأنَّ كافَّةَ الأشياءِ تُمثِّلُ الوجودَ المادِّيَّ. وبِرأيهِ: إنَّ التَّاوَ كانَ مجرَّدَ نمطٍ للأشياءِ. وقدْ ورثَ نظريَّاتِه عنْ «يَانْ يُوَانَ -Yan Yuan» و«دِايْ تشين -Dai Zhen»، الَّذي ناقشَ العلاقةَ بينَ «لِي -li» و«تشِي -qi». ويعتقدُ «يَانُ يوان» أنَّ «لِي -li» و«تشِي -qi» كانَا أمرَيْنِ لا يمكنُ فصلُهما بأيِّ حالٍ عنِ التَّاو، في حينِ أنَّ «دَاي» اعتقدَ أنَّ «لِي» كانَ يمثِّلُ نمطَ تغييراتِ «تشِي»، كمَا أكَّدَ على أنَّ «لِي» هوَ الَّذي ميَّزَ الأشياءَ عنْ بعضِها.
العَقلُ وَالإِنسَانِيَّةُ وَالمادَّةُ
التَّحقيقُ الفلسفيُّ في العلاقةِ بينَ العقلِ والطَّبيعةِ البشريَّةِ والعالمِ الماديِّ. يعتقدُ «تشَانْغ تساي -Zhang Zai» أنَّ لدى البشرِ نوعَينِ مِنَ الطَّبيعةِ، أحدُهُما الطَّبيعةُ السَّماويَّةُ، الَّتي كانتْ تُمثِّلُ الفطرةَ لكلِّ شيءٍ في هذَا الكونِ، والأخرَى الطَّبيعةُ الغريزيَّةُ الَّتِي كانتْ نتيجةً لآليَّةِ جسدِ الإنسانِ، كما ادَّعى أيضاً أنَّ العقلَ هوَ الَّذي وحَّدَ الطَّبيعةَ والعواطفَ البشريَّةَ. وصفَ «تشينغ هَاو -Cheng Hao» الطَّبيعةَ السَّماويَّةَ بأنَّها «لِي»، كمَا اعتقدَ شقيقُه «تشِنغ يِي -Cheng Yi» أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ كانتْ «لِي»، وشملتِ الإحسانَ والصَّلاحَ والأدبَ والحكمةَ، كمَا لاحظَ أنَّ الشَّكلَ الملموسَ لطبيعةِ الإنسانِ كانَ «شُوين» (قلبٌ/عقلٌ)، وهوَ عبارةٌ عنْ جانبَيْنِ أساسيَّيْنِ، هُما: الجوهرُ، والوظيفةُ. طوَّرَ «تشُو شِي -Zhu Xi» نظريَّاتِ «تشَانْغ تساي -Zhang Zai» والأخوَيْنِ «تشِنغ -Cheng». وكانَ يعتقدُ أنَّ الطَّبيعةَ السَّماويَّةَ تكوَّنتْ بالكاملِ مِنْ هَبَّاتِ «لِي» الطَّاهرةِ، في حينِ أنَّ الطَّبيعةَ الغريزيَّةَ اشتملتْ علَى هَبَّاتِ تشِي غيرِ الطَّاهرةِ. أمَّا بالنِّسبةِ للعقلِ، فهوَ يعتقدُ أنَّ جوهرَه تمثَّلَ في الطَّبيعةِ البشريَّةِ، في حينِ تمثَّلتْ وظيفتُه في العواطفِ، وقدْ جاءتْ قدراتُه المعرفيَّةُ مِنَ الوحدةِ بينَ «لِي» و«تشِي»، كمَا شدَّدَ على الفرقِ بينَ العقلِ و«لِي»، مُعتقِداً أنَّ الاثنَيْنِ كانَا مرتبطَيْنِ، ولكنَّهُما ليسَا متشابهَيْنِ. وبناءً علَى ذلِكَ، ادَّعَى «تشُو شِي -Zhu Xi» أنَّ الكونَ والعقلَ واحدٌ ولا فرقَ بينَهُما، ولغرسِ الفضائلِ البشريَّةِ، دعَا إلى استغلالِ العقلِ الأصليِّ الَّذي كانَ يعتقدُ أنَّه صاحبُ الإحسانِ والصَّلاحِ والأدبِ والحكمةِ، وقد استمد نظريَّاتِهِ تلك من «وَانْغُ شُورِين -Wang Shouren» الَّذي ذكرَ أنَّه لا يوجدُ مبدأٌ أوْ مادَّةٌ خارجَ نطاقِ العقلِ البشريِّ.
اتَّخذَ بعضُ الفلاسفةِ، ولا سيَّما أولئكَ الَّذينَ يعتقدُون أنَّ «لِي» موجودٌ فِي تشِي، نهجاً أُحاديّاً تجاهَ الطَّبيعةِ البشريَّةِ. فحسَبَ رأيِهِم، إنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ كانتْ غريزيَّةً بالكامِلِ. وانتقدَ «وَانْغُ فُوتْسِي -Wang Fuzhi» مفهومَ الطَّبيعةِ الغريزيَّةِ باعتبارِها غيرَ ضروريَّةٍ، وشدَّدَ «يَانْ يُوَان -Yan Yuan» أنَّ الطَّبيعةَ البشريَّةَ لا يمكنُ أنْ تُوجدَ أوْ تظهرَ من دونِ غريزةٍ. وعرَّفَ «دَايْ زِين -Dai Zhen» الطَّبيعةَ البشريَّةَ بأنَّها «شويتشي -xueqi» (حيويَّةٌ وغريزةٌ) و«تشين تشي -xinzhi» (عقلٌ وإدراكٌ)، وأنها كانتْ مبنيَّةً علَى «يِين -yin» و«يَانْغَ -yang» والعناصرِ الخمسةِ. وهوَ أيضاً مَنْ قدَّمَ نظريَّةً مادِّيَّةً أصليَّةً تفيدُ بأنَّ: «لِي» موجودٌ خارجَ نطاقِ العقلِ، ولكنْ يمكنُ أنْ يُنظَرَ إليْهِ مِنْ قِبَلِ العقلِ.
المَعرِفَةُ والعَمَلُ
بحثٌ فلسفيٌّ في المعرفةِ البشريَّةِ وعلاقتِها بالعملِ. قسَّمَ «تشَانْغُ تساي -Zhang Zai» المعرفةَ البشريَّةَ إلى نوعَيْنِ: أحدُهُما معرفةُ الأشياءِ الَّتي تمَّ اكتسابُها مِنَ الإدراكِ الحسِّيِّ، أمَّا النَّوعُ الثَّانِي فهو معرفةُ طريقِ السَّماءِ الَّتي تمَّ اكتسابُها مِنْ خلالِ الطَّبيعةِ الفاضلَةِ. وشدَّدَ على العلاقةِ بينَ المعرفةِ والفضيلةِ، ودعَا إلى تنفيذِ الغراسِ الأخلاقيِّ معَ المعرفةِ بطريقِ السَّماءِ، كمَا ناقشَ «تشِنغ يِي -Cheng Yi» المعرفةَ المُكتسَبةَ مِنْ خلالِ الطَّبيعةِ الفاضلةِ، لكنَّه عرَّفَها بصورةٍ أكثرَ عقلانيَّةً وهيَ معرفةُ المبادِئ. ولاكتسابِ هذِه المعرفةِ، دعَا إلى تحرِّي الأشياءِ، وذكرَ أنَّ دراسةَ مبادئِ الأشياءِ كانتْ الطَّريقَ الصَّحيحَ لفهمِ المبدأ الأسمَى، كمَا اعتقدَ أنَّ العملَ يجبُ أنْ يستندَ إلى المعرفةِ، وقدْ طوَّرَ «تشُو شِي -Zhu Xi» نظريَّاتِ «تشِنغ -Cheng»، ونَبَّه إلى أنَّه بالنَّظرِ إلى التَّرتيبِ، فإنَّ المعرفةَ تأتِي أوَّلاً، وبالنَّظرِ إلى الأهمِّيَّةِ، فإنَّ العملَ أكثرُ أهمِّيَّةً، كمَا شدَّدَ على تحرِّي الأشياءِ باعتبارِها طريقةً لاكتسابِ المعرفةِ. ومعَ ذلِكَ، رفضَ «لُو جِيُويُوَان -Lu Jiuyuan» هذِه الطَّريقةَ لأنَّها مُملَّةٌ للغايةِ. ويعتقدُ «لُو جِيُويُوَان -Lu Jiuyuan» أنَّ «لِي» كانتْ ملازمةً للعقلِ، لذلِكَ دعَا إلى الاستبطانِ الذَّاتيِّ لاكتشافِ «لِي»، واقترحَ «وَانْغُ شُورِين -Wang Shouren» وحدَةَ المعرفةِ والعملِ للتَّأكيدِ على عدمِ انفصالِهما، وانتقدَ هذَا الرَّأيَ «وَانْغُ فُوتسِي -Wang Fuzhi»، الَّذي كانَ مُهتمّاً بالاختلافِ الموجودِ بينَهُما، وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّه دعَا إلى ضرورةِ أنْ يُكمِّلَ كلٌّ منهُما الآخرَ، لكنَّهُ أكَّدَ أنَّ الأولويَّةَ للعملِ، لأنه أساسُ المعرفةِ.
الوَحْدَةُ وَالتَّضَارُبُ والتَّغْيِيرُ
تحقيقٌ فلسفيٌّ في الوحدةِ وصراعِ المُتناقِضاتِ وقضيَّةِ التَّغييرِ. يعتقدُ «تشَانْغُ تساي -Zhang Zai» أنَّ تشِي كانَ وحدةً لصراعِ المُتناقِضاتِ، وفي رأيِه، إنَّ التَّضارُبَ تسبَّبَ في تغييرِ تشِي، وأنَّ الوحدةَ جعلَتْها غيرَ مُتوقَّعةٍ، كمَا اعتقدَ أنَّ هناكَ نوعَيْنِ مِنَ التَّغييرِ: أحدُهُما كانَ واضحاً، والآخرُ كانَ دقيقاً. ويمكنُ أنْ يتبدَّلَ هذَان النَّوعانِ ليُصبح كلٌّ منهُما مكانَ الآخرِ أثناءَ تطوُّرِ الأشياءِ. وقدْ أكَّدَ «تشِنغ يِي -Cheng Yi» أنَّ لكلِّ شيءٍ ضدّاً، ورَأى أنَّ وجودَ المتناقضاتِ هوَ أصلُ التَّطوُّرِ، وأنَّ التَّطوُّرَ سينعكسَ على نفسِه بمجرَّدِ الوصولِ إلى حدٍّ مُعيَّنٍ، وقدْ طوَّر «تشُو شِي -Zhu Xi» نظريَّاتِ «تشَانْغَ -Zhang» و«تشِنغَ -Cheng»، ولمْ يعتقِدْ أنَّ كلَّ شيءٍ لَهُ ضدٌّ فحَسبُ (كالشَّرقِ والغربِ، والأعلَى الأسفل)، بلْ إنَّ كلَّ شيءٍ يحتوِي على المتناقضاتِ نفسِها (مثلِ الأمامِ والخلفِ، والدَّاخلِ والخارجِ بالنَّسبةِ للأشياءِ)، واعتقدَ أيضاً أنَّ وجودَ المتناقضاتِ كانَ سبباً للتَّغييرِ، وأكَّدَ «وَانْغُ فُوتسِي -Wang Fuzhi» اتِّصالَ المتناقضاتِ وتحوُّلَها، وأكَّدَ أنَّ المتناقضاتِ كانتْ مختلِفةً اختلافاً جوهريّاً إلَّا أنَّها كانتْ مُتَّصلةً بشكلٍ وثيقٍ، ولمْ تكنْ مُتَّصلةً ببساطةٍ مِنْ خلالِ رابطٍ، ولكنْ مِنْ خلالِ الاختراقِ والتَّحوُّلِ المُتبادَلِ بشكلٍ فاعلٍ، ومنذُ عهدِ أسرةِ «سُونْغَ -Song» حتَّى أسرةِ «تشينغ -Qing»، ظلَّ كلٌّ مِنْ لِي (المبدأِ) وتشِي (القوَّةِ) وشين (العقلِ) وشينغ (الطَّبيعةِ) القضايَا المركزيَّةَ للفلسفةِ الصِّينيَّةِ. وكانتْ هناكَ العديدُ منَ المدارسِ المُؤثِّرةِ: مثلِ مدرسةِ الْنِّيُو كُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الَّتي أكَّدتْ على تفوُّقِ «لِي» (بقيادةِ «تشِنغ هَاو -Cheng Hao» و«تشينغ يِي -Cheng Yi» و«تشُو شِي -Zhu Xi»)، ومدرسةِ القوَّةِ الَّتي اعتبرَتْ «تشِي» جوهراً أساسيّاً (بقيادةِ «تشَانْغ تسايْ -Zhang Zai» و«لُو تشينشون -Luo Qinshun» و«وَانْغ تِينْغِشِيَانْغ -Wang Tingxiang» و«وَانْغ فُوتْسِي -Wang Fuzhi»، ومدرسةِ العقلِ الَّتي حقَّقتْ دورَ «تشين» (بقيادةِ «لُو جِيُويُوَان -Lu Jiuyuan» و«يَانْغ جِيَان -Yang Jian» و«تشِن شِيَانْ زَانْغ -Chen Xianzhang» و«زَانْ رُوشُوي -Zhan Ruoshui» و«وَانْغ شُورِين -Wang Shouren»)، ومدرسةِ الطَّبيعةِ البشريَّةِ الَّتي ركَّزتْ علَى «شينغ» (بقيادةِ «هُو هُونْغ -Hu Hong»). وثمَّةَ مدرسةٌ أخرَى بارزةٌ، وهيَ المدرسةُ النَّفعيَّةُ بقيادةِ «تشِن لِيَانْغَ -Chen Liang» و«يِي شِي -Ye Shi» و«يَان يُوَان -Yan Yuan»، الَّذينَ أكَّدُوا قيمةَ المعرفةِ التَّجريبيَّةِ والتَّجربةِ العمليَّةِ.
مُنْذ عامِ 1840م حتَّى عامِ 1949م: تَكَامُلُ النَّظَرِيَّاتِ الصِّينِيَّةِ وَالغَرْبِيَّةِ
أثارتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ الحديثةُ سؤالاً حولَ الطَّريقِ الصَّحيحِ للأُمَّةِ، وكانَ روَّادُ هذَا الاتِّجاهِ مجموعةً مِنْ أوائلِ الفلاسفةِ الإصلاحيِّينَ مثلِ «غُونْغ تسي تشين -Gong Zizhen» و«وِي يُوَان -Wei Yuan»، و«تشِنغ غُوَانِينْغ -Zheng Guanying» الَّذي سعَى إلى طريقةٍ لتجديدِ شبابِ الوطنِ بعدَ حربِ الأفيونِ عامَ 1840م. ومعَ ذلِكَ، كانتْ هذِه النَّظريَّاتُ لا تزالُ في مهدِها إلَّا أنَّها فشلَتْ معَ هزيمةِ الصِّينِ في الحربِ اليابانيَّةِ الصِّينيَّةِ الأوْلَى 1894م - 1895م، وقدَّمَ جيلٌ جديدٌ مِنَ التَّقدُّميِّينَ فلسفاتٍ إصلاحيَّةً ناضجةً، منهم: «كَانْغ يُوِي -Kang Youwei» و«تَانْ سِيتُونْغ -Tan Sitong» و«يَانْ فُو -Yan Fu» و«لِيَانْغ تشِيتْشَاو -Liang Qichao»، وقد بلغتْ ذروتَها خلالِ الحركة الإصلاحيَّة المعروفة باسم حركةِ المئةِ يومٍ عامَ 1898م. وعقبَ فشلِ الحركةِ الإصلاحيَّةِ، اكتسبتِ النَّظريَّاتُ الثَّوريَّةُ الزَّخمَ بفضلِ جهودِ أشخاصٍ مثلِ «سونْ يَاتْ سيِن -Sun Yat-sen» و«زَانْغ تَايَان -Zhang Taiyan»، اللَّذَيْنِ أَدْرجَا نظريَّةَ التَّطوُّرِ في فلسفاتِهِم. وفي عامِ 1910م، ظهرَ عددٌ كبيرٌ مِنَ الدِّيموقراطيِّينَ الرَّاديكاليِّينَ خلالَ الحركةِ الثَّقافيَّةِ الجديدةِ، وقدِ اعتنقَ كثيرٌ منْهُم -مثلُ «لِى دَا تشَاو -Li Dazhao» و«تشِن دُو تسيُو -Chen Duxiu»- الماركسيَّةَ بإلهامٍ مِنَ الثَّورةِ الرُّوسيَّةِ. وبعدَ حركةِ الرَّابعِ مِنْ مايُو 1919م، نشرَ الماركسيُّونَ الصِّينيُّونَ الفلسفةَ عبرَ البلادِ، وأثْرَوْهَا بخبراتِهم الثَّوريَّةِ.
وفي غضونِ ذلِكَ، أُدخِلتْ فلسفاتٌ غربيَّةٌ حديثةٌ أيضاً إلى الصِّينِ، منها براغماتيَّةُ «جُون دِيوِي -John Dewey»، وواقعيَّةُ «إِرْنِسْت مَاتش -Ernst Mach»، والواقعيَّةُ الجديدةُ لِـ«بِرْتِرَانْد رَاسِل -Bertrand Russell»، وفلسفةُ «هِنْرِي بِيرْجُسُون -Henri Bergson» للحياةِ، وتطوعيَّةُ «آرْثَر شُوبِنْهَاوَر -Arthur Schopenhauer»، ونظريَّةُ الإنسانِ الخارقِ لـ«فِريدْرِيك نِيتْشه -Friedrich Nietzsche». ولمْ تكنْ هذِه النَّظريَّاتُ تعملُ لإعادةِ التَّحقيقِ في المجالاتِ التَّقليديَّةِ مثلِ المنطقِ والمعرفيَّةِ فحَسبُ، ولكنَّها عَمِلتْ أيضاً جنباً إلى جنبٍ معَ النَّظريَّاتِ الصِّينيَّةِ التَّقليديَّةِ لإنشاءِ أنظمةٍ فلسفيَّةٍ جديدةٍ مثلِ الحيويَّةِ والعَمليَّةِ ومدارسِ لِيتْشُو الجديدةِ (تعلُّمُ المبادِئِ) ووَايْشِي (الوَعْيُ فحَسبُ). ناقشَتْ هذِه الفلسفاتُ المتنافِسةُ العديدَ منَ القضايَا، أبرزُها الاشتراكيَّةُ والمشاكلُ والمذاهبُ وعلومُ وفلسفةُ الحياةِ، وَإضافةً إلى الحملاتِ الَّتِي شُنَّتْ ضد الماركسيِّينَ الصِّينيِّينَ، كانتْ هناكَ أيضاً حملاتٌ ضدَّ الدُّوغماتيَّةِ والذَّاتيَّةِ.
عِلْمُ الكَوْنِيَّاتِ
ناقشَ معظمُ المفكِّرِينَ الإصلاحيِّينَ في وقتٍ مُبكِّرٍ، مِنْ «غُونْغ تسي تشن -Gong Zizhen» إلى «تشِنغ غُوَانْيِنْغ -Zheng Guanying»، علمَ الكونيَّاتِ حسَبَ المفاهيمِ الصِّينيَّةِ التَّقليديَّةِ مثلَ السَّماءِ والأرضِ والتَّاو وتَايْجِي وتشِي. وفي مطلعِ القرنِ العشرِينَ، اعتنقَ جيلٌ جديدٌ مِنَ الإصلاحيِّينَ العلومَ الغربيَّةَ في استفساراتِهِم الفلسفيَّةِ. أعادَ «كَانْغ يُوِي -Kang Youwei» فحصَ نظريَّةِ تشِي باستخدامِ مثلِ هذِه المفاهيمِ الحديثةِ مثلِ الحرارةِ والجاذبيَّةِ والضَّوءِ والكهرباءِ، في حينِ أعادَ «تَانْ سِيتُونْغ -Tan Sitong» تعريفَ تشِي باسمِ الأثيرِ. رأَى «يَانْ فُو -Yan Fu» أنَّ الكونَ كلَّه كانَ نتيجةً للتَّطوُّرِ، مدفوعاً حسبَ المادَّةِ والقوَّةِ. وأسَّس «سونْ يَات -Sun Yat» رؤيتَه لعلمِ الكونيَّاتِ في العلومِ الحديثةِ على أساسٍ واعٍ، فقدْ كتبَ ذاتَ مرَّةً: بدأَ الكونُ بحركةِ الأثيرِ، الَّتي أنتجتِ الإلكتروناتِ، وتجمَّعتِ الإلكتروناتُ على هيئةِ عناصرَ، واندمجتْ هذِه العناصرُ في مادَّةٍ، واجتمعتْ هذِه المادَّةُ في الأرضِ. وطوَّرَ الماركسيُّونَ الصِّينيُّونَ علمَ الكونيَّاتِ الماديَّ. وأشارَ «تشو شويباي -Qu Qiubai» إلى أنَّ الكونيَّاتِ الماركسيَّةَ تقومُ علَى النَّظريَّاتِ المادِّيَّةِ حولَ التَّغييرِ، ورأى أنَّ جميعَ أنواعِ المادَّةِ في تغيُّرٍ وتطوُّرٍ مُستمرٍّ، وتخضعُ للقوانينِ الجدليَّةِ. كتبَ «لِى دَا -Li Da» في ملخَّصِه عنْ علمِ الاجتماعِ: إنَّ العالمَ هوَ وَحْدةٌ مُتطوِّرةٌ، وأنَّ الحركةَ والمادَّةَ والوقتَ والمكانَ أشكالٌ أساسيَّةٌ لوجودِ المادَّةِ.
التَّطَوُّرُ التَّارِيخِيُّ
بحث العديدُ مِنَ الفلاسفةِ الصِّينيِّينَ المُحدَثِينَ في القوانينِ الأساسيَّةِ للتطوُّرِ التَّاريخيِّ، وأقرَّ «غُونْغ تسي تشين -Gong Zizhen» و«وِي يُوَان -Wei Yuan» بتطوُّرِ التَّاريخِ، ولكنَّهما لا يزالان يُؤكِّدان أنَّ العقلَ هوَ الأساسُ. اعتقدَ «كَانْغُ -Kang» أنَّ المجتمعَ البشريَّ يتطوَّرُ مِنْ خلالِ ثلاثِ مراحلَ: عصرِ الفوضَى (الملكيَّةِ المطلقةِ)، عَصْرِ الاقتِرَابِ مِنَ السَّلامِ (الملكيَّةِ الدُّستوريَّةِ)، وعصرِ السَّلامِ العالميِّ (الدِّيمقراطيَّةِ). وذهبَ «تَانْ سِيتُونْغ -Tan Sitong» إلى أبعدَ مِنْ ذلِكَ، حيثُ ندَّدَ بتعاليمِ الملكيَّةِ الأوتوقراطيَّةِ والأُرثوذُكسيَّةِ الكُونْفُوشيُوسيَّةِ باعتبارِها قواعدَ للفوضَى، والَّتي ينبغِي أنْ تكونَ مُتجذِّرةً لخلقِ مجتمعٍ متساوٍ. وقرَّبَ «يَانْ فُو -Yan Fu» القضيَّةَ مِنْ خلالِ استخدامِ النَّظريَّاتِ العلميَّةِ للتَّطوُّرِ، في حينِ رفضَ «لِيَانْغ تشي تشاو -Liang Qichao» النَّظريَّةَ الذَّاتيَّةَ لدورةِ الأُسَرِ منْ خلالِ التَّأكيدِ علَى الدُّورِ الهادفِ للأبطالِ مِنَ الأفرادِ. كمَا تبنَّى «تشَانْغ تَايَان -Zhang Taiyan» نهجاً تطوُّريّاً، وذكرَ أنَّ كلّاً مِنَ الخيرِ والشَّرِّ يتطوَّرانِ، وبالتَّالِي اعتقدَ أنَّ الثَّوراتِ كانتْ ضروريَّةً، وأكَّدَ «سونْ يَات -Sun Yat» على دَوْرِ قُوتِ الشَّعبِ مُشدِّداً على أنَّ التَّطوُّرَ التَّاريخيَّ كانَ مدفوعاً بالرَّغبةِ في البقاءِ. ودعَا المادِّيُّونَ أمثالُ «لِي دَازَاو -Li Dazhao» و«تسَاي هِيسِن -Cai Hesen» إلى التَّحقيقِ في علاقاتِ الإنتاجِ والصِّراعاتِ الطَّبقيَّةِ، وعقبَ تلخيصِ النَّظريَّاتِ الماركسيَّةِ وتجربةِ الثَّورةِ الصِّينيَّةِ توصَّلَ «مَاوْ تسِي تُونْغ -Mao Zedong» إلى أنَّ الشَّعبَ هوَ القوَّةُ المُحرِّكةُ الوحيدةُ في صناعةِ تاريخِ العالمِ.
نَظْرَةٌ إلى التَّطَوُّرِ
شهدتِ المدَّة بينَ عامَيْ 1840م و1949م تحوُّلاتٍ أساسيَّةً في المجتمعِ الصِّينيِّ جعلَت مناقشةَ التَّغييرِ والتَّطوُّرِ مطلباً شعبيّاً. وقبلَ الحربِ الصِّينيَّةِ اليابانيَّةِ الأولَى في عامِ 1894م، تمَّ التَّأكيدُ على ضرورةِ التَّغييرِ منْ قِبَلِ العديدِ منَ المُفكِّرينَ منْ أصحابِ الرُّؤى المُختلِفةِ، بدءاً مِنَ الإصلاحيِّينَ أمثالِ «غُونْغ تسي تشن -Gong Zizhen» و«وِي يُوَان -Wei Yuan» و«تشِنغ غُوَانيِنْغ -Zheng Guanying» وصولاً إلى المُتمرِّدِينَ أمثالِ «هُونْغ شِيُوشوان -Hong Xiuquan» و«هُونْغ رِينْغَان -Hong Rengan» و«وَانْغ تَاو -Wang Tao». وفي أثناء حركةِ المئةِ يومٍ الإصلاحية عامَ 1898م، اعتنقَ جيلٌ جديدٌ منَ الفلاسفةِ الإصلاحيِّينَ الفِكرَ الغربيَّ للتَّطوُّرِ، وقامُوا بدمجِه معَ الأفكارِ الصِّينيَّةِ التَّقليديَّةِ حولَ التَّغييرِ، وقدَّمُوا مجموعةً مِنَ النَّظريَّاتِ الجديدةِ بشأنِ التَّطوُّرِ الاجتماعيِّ، وقامَ الثُّوَّارُ بتطويرِ نظريَّاتِهِم الخاصَّةِ عَنِ التَّطوُّرِ الاجتماعيِّ عبرَ دمجِ فلسفاتِ الثَّورةِ، كمَا دَعَوْا إلى ثورةٍ لتسريعِ التَّطوُّرِ الاجتماعيِّ لتحقيقِ المصلحةِ العامَّةِ. وبناءً علَى النَّظريَّاتِ الماركسيَّةِ وتجربةِ الثَّورةِ الصِّينيَّةِ، وضعَ «مَاوْ تسِي دُونْغ -Mao Zedong» نظاماً نظريّاً للمادِّيَّةِ الجدليَّةِ معَ المُمَيِّزاتِ الصِّينيَّةِ، وقدْ قدَّمتْ شرحاً منهجيّاً بشأنِ قوانينِ التَّنميَةِ الاجتماعيَّةِ: فالمجتمعُ البشريُّ يتطوَّرُ دائماً منْ مرحلةٍ أَدْنى إلى مرحلةٍ أعلَى بطريقةٍ لولبيَّةٍ بالتَّناوُبِ بينَ التَّغييرِ الكمِّيِّ والتَّغييرِ النَّوعيِّ.
المعرفةُ وَالعمَلُ
تحقيقٌ فلسفيٌّ في العلاقةِ بينَ المعرفةِ والعملِ. يعتقدُ «لِي دَا -Li Da» أنَّ الإدراكَ كانَ انعكاساً للعالَمِ المادِّيِّ في الوعيِ البشريِّ. وفي رأيِه، إنَّ المعرفةَ كانتْ عمليَّةً جدليَّةً بدأَتْ منْ خلالِ العملِ، وعادتْ في نهايَّةِ المطافِ إلى العملِ أيضاً، فالعملُ كانَ أساسَ المعرفةِ، في حينِ كانتِ المعرفةُ الباعثَ على العملِ، ويمكنُ أنْ تتحقَّقَ الممارسةُ مِنَ المعرفةِ، و(مِنْ خلالِ المعرفةِ المُصدَّقةِ (يتغَيَّرُ العالمُ المادِّيُّ بطريقةٍ فعَّالةٍ. لخَّصَ «مَاوْ تسِي تُونْغ -Mao Zedong» تجربةَ الثَّورةِ الصِّينيَّةِ في سلسلةٍ مِنَ الأُطروحاتِ، ودعَا إلى نظريَّةِ المعرفةِ المُستنِدَةِ إلى الممارسةِ، والَّتي تجمعُ كلّاً مِنَ المعرفةِ والممارسةِ بالمادِّيَّةِ الجدليَّةِ، كمَا عرَّفَ النَّظريَّةَ الماركسيَّةَ بأنَّها نظريَّةُ الانعكاسِ الفعَّالةُ والثَّوريَّةُ، كمَا قدَّمَ العديدَ مِنَ المبادئِ الواقعيَّةِ مثلِ تأسيسِ كلِّ عملٍ بناءً علَى الواقعِ، والبحثِ عنِ الحقيقةِ مِنْ خلالِ الوقائعِ، وربطِ النَّظريَّةِ بالممارسةِ، وقد أدَّت هذه المبادئ دوراً مُهمَّاً في توجيهِ الثَّورةِ الاشتراكيَّةِ وبناءِ البلادِ.
خَصائِصُ الفلسَفةِ الصِّينِيَّةِ
الفلسفةُ الصِّينيَّةُ واحدةٌ منْ كُبرَى الفلسفاتِ المُستقلَّةِ في العالمِ، وتختلفُ عنِ الفلسفاتِ الغربيَّةِ والهنديَّةِ في جوانبَ كثيرةٍ منها أنَّ الفلسفةَ الصِّينيَّةَ ذاتُ تاريخٍ طويلٍ ومُتطوِّرٍ، وبالعودةِ إلى القرنِ الثَّانِي عشرَ قبلَ الميلادِ، قادَ كتابُ التَّغييراتِ العالمَ أجمعَ في مجالِ الفلسفةِ بنظريَّاتِه الفريدةِ. وفي أسرةِ تشُو الشَّرقيَّةِ، وضعتْ مئاتُ المدارسِ الفكريَّةِ العديدَ مِنَ النَّظريَّاتِ المُشرِقةِ، الَّتي جعلتِ الفلسفةَ الصِّينيَّةِ في مستوىً مُتقدِّمٍ لمْ يشهَدْه العالمُ أجمعُ في تلك الفترةِ، وبعدَ عهدِ أسرةِ «هَان -Han» ظلَّتِ الصِّينُ رائدةً على مستوَى العالمِ في العلومِ والتِّكنولوجيَا حتَّى نهايَّةِ العصورِ الوسطَى. وقدْ أدَّى تطويرُ الوعيِ العامِّ والعلومِ الطَّبيعيَّةِ، جنباً إلى جنبٍ معَ التَّفاعلِ المُثمِرِ بينَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ والطَّاوِيَّةِ والبُوذيَّةِ إلى تحقيقِ إنجازاتٍ بارزةٍ في المجالِ الفلسفيِّ، وقدْ تكاملتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ معَ دراسةِ الكلاسيكيَّاتِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ بدلاً منَ الشَّرائعِ اللَّاهوتيَّةِ. وفي أُورُوبَّا، سيطرَ اللَّاهوتُ علَى السَّاحةِ الإيديولوجيَّةِ في العصورِ الوسطَى، بينما كانتِ الفلسفةُ مجرَّدَ فرعٍ صغيرٍ. وفي المقابِلِ، وعلى الرَّغمِ منْ أنَّ الأديانَ الصِّينيَّةَ قامتْ أيضاً بدورٍ فعَّالٍ، إلَّا أنَّها لمْ يسبِقْ لها أنْ طغَتْ علَى الفلسفةِ على الإطلاقِ، بلْ إنَّ أكثرَ الدِّيانتَيْنِ تأثيراً -وهُما الطَّاوِيَّةُ والبُوذيَّةُ- قدْ أَثْرتَا الفلسفةَ الصِّينيَّةَ بشكلٍ كبيرٍ، وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةَ ورثتْ بعضَ المفاهيمِ الغامِضةِ (مثلِ التَّفويضِ السَّماويِّ) منْ كلاسيكيَّاتِها القديمةِ، فإنَّها لمْ تؤمِنْ بأيِّ إلهٍ مُجسَّمٍ علَى الإطلاقِ، وعادةً مَا يُركِّزُ أتباعُها على التَّفكُّرِ في المجتمعِ البشريِّ وإصدارِ المُدوَّناتِ الأخلاقيَّةِ، وعلَى النَّقيضِ مِنَ الخلافاتِ الدَّمويَّةِ بينَ الدِّياناتِ الغربيَّةِ، ظلَّتْ كلٌّ منَ الطَّاوِيَّةِ والبوذيَّةِ منافسَيْنِ ودودَيْنِ معَ بعضِهِما ومعَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ. ومعَ الإنجازاتِ التَّكميليَّةِ، وصلتِ الدِّياناتُ الثَّلاثُ مجتمِعةً بالفلسفةِ الصِّينيَّةِ إلى ذروتِها، وقدْ غُرِسَتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ التَّقليديَّةُ معَ الأخلاقِ، وتداخلَ كلٌّ مِنْ عِلْمِ الكونيَّاتِ ونظريَّةِ المعرفةِ معَ الأخلاقِ في العديدِ مِنَ الجوانبِ. وفي عصر مَا قبل أسرةِ تشين قبلَ عامِ 221 ق.م، أسَّستْ كلٌّ مِنَ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ والطَّاوِيَّةِ والمُوهستيَّةِ المبادئَ الأخلاقيَّةَ على طريقِ السَّماءِ. وفي عهدِ أسرةِ هَانَ، دعمَ «دُونْغ تشونْغشُو -Dong Zhongshu» فكرةَ المُوَجِّهِينَ الثَّلاثةِ الرَّئيسينَ باستخدامِ نظريَّاتِ «يِين -yin» و«يَانْغ -yang». وفي أسرةِ «سُونْغ -Song» و«مينغ -Ming»، دعتِ النِّيُو كُونْفُوشْيُوسِيَّةِ إلى الخيرِ مِنْ خلالِ توضيحِ أنَّ جميعَ البشرِ يتقاسمُونَ «تشِي» واحداً، ويعتبرُون أنَّ «لِي» يُمثِّلُ جوهرَ الكونِ، ويُمثِّلُ مبدأً للمُدوَّناتِ الأخلاقيَّةِ. ويُقصدُ بالعديدِ منَ التَّعاليمِ التَّقليديَّةِ اكتسابُ المعرفةِ وغرسُ الفضيلةِ، كالتَّفكيرِ في الطَّريقةِ الَّتي تكونُ بهَا مُخلِصاً، والَّتي يقومُ «مِنْسيُوس -Mencius» بتعليمِها، والحفاظِ على عقلٍ مُنفتِحٍ وهادئٍ ويَقِظٍ كما اقترحَ «تشون تسي -Xunzi»، والتَّحقيقِ في الأشياءِ الذي دعَا إليه «تشُو شِي -Zhu Xi» والأخوَانِ «تشِنغ -Cheng»، واستغلالِ العقلِ الأصليِّ الَّذي أوصَى بِهِ «لُو جِيُويُوَان -Lu Jiuyuan» و«وَانْغ شُورِين -Wang Shouren». يميلُ الفلاسفةُ الصِّينيُّونَ إلى التَّفكيرِ في سياقِ الوحدةِ والنَّزاهةِ والاستمراريَّةِ. فوضعوا بالتَّالِي تقليداً طويلاً مِنَ التَّحقيقِ الجدليِّ، وعلَى الرَّغمِ مِنَ المصطلحاتِ المُختلِفةِ، شاركتِ العديدُ مِنَ المدارسِ الفلسفيَّةِ الصِّينيَّةِ نفسَ المخاوفِ حولَ التَّناقُضِ والحركةِ والتَّطويرِ وتغييرِ الأشياءِ والآراءِ، وقدِ اعتبرُوا تطوُّرَ الكونِ سلسلةً منْ عمليَّاتِ الخلقِ والتَّحويلِ، وشدَّدُوا على اتِّصالِ ووحدةِ الأشياءِ والمفاهيمِ المُختلِفةِ، مثلِ السَّماءِ والأرضِ والحركةِ والهدوءِ والجسدِ والعقلِ، وقدْ وضعتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ مجموعةً فريدةً منْ نوعِها مِنَ المفاهيمِ العميقةِ، مثلِ الطَّاو (الطَّريقِ)، ولِي (المبدأِ)، وتشِي (القوَّةِ)، وتشين (العقلِ)، وتشينغ (الطَّبيعةِ)، وتَايْجِي (الشَّامِلِ) يِن و يَانْغ، ومَا إلى ذلِكَ. وقدْ أحدثَ هذَا التَّقليدُ بالفعلِ ثمراتٍ مهمَّةً قبلَ أسرةِ «تشين»، كمَا قدَّمَتْ مئاتُ المدارسِ الفكريَّةِ مفاهيمَهَا الخاصَّةَ منْ مختلفِ وجهاتِ النَّظرِ. وفي عهدِ أُسرتَي «وِي» و«جين» شاركَ العديدُ مِنَ الفلاسفةِ في تحليلِ الأسماءِ لتحقيقِ المبادئِ، وأعدُّوا تطوُّراً جديداً لتطبيقِ المفاهيمِ، وبلغَ هذَا التَّقليدُ ذروتَه منْ أسرةِ «سُونْغ -Song» حتَّى أسرةِ «تشينغ -Qing»، عندَما أعادَ الفلاسفةُ الصِّينيُّونَ تعريفَ المفاهيمِ التَّقليديَّةِ، وكتبُوا أعمالاً غزيرةً لتفسيرِ وتحليلِ المصطلحاتِ القديمةِ والجديدةِ، وقدْ أثمرَتْ جهودُهم عنْ إخراجِ مصطلحاتٍ متَّسقةٍ بشكلٍ مُتزايدٍ، كمَا أنَّ التفرُّدَ الَّذي تمتَّعتْ بهِ ميَّزَ الفلسفةَ الصِّينيَّةَ عنْ نظيراتِها الغربيَّةِ والهنديَّةِ، وقدْ أسهمتِ الفلسفةُ الصِّينيَّةُ إسهاماً عظيماً في تطويرِ الحضارةِ البشريَّةِ، كمَا كانَ لهَا تأثيرٌ عميقٌ في الفلسفةِ في اليَابَانِ وشبهِ الجزيرةِ الكُوريَّةِ وجنوبِ شرقِ آسْيَا وحتَّى بعضِ الدُّولِ الغربيَّةِ.