أُسرَةُ تشِينغ (1616 - 1911م)Qing Dynasty

هيَ آخِرُ الأُسرِ الإقطاعيَّةِ فِي التَّاريخِ الصِّينيِّ، أسَّسهَا زعماءُ مِنْ «مَنْشُوريا -Manchuria». وفِي عامِ 1616م (العامِ الرَّابعِ والأربعينَ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «وَانْلِي -Wanli» مِنْ أسرةِ «مِينْغ -Ming» أعلنَ «نُورْهَاشِي -Nurhachi»، شيخُ قبيلةٍ مِنْ قبائلِ «الجُورْشِن -Jurchen» الصَّغيرةِ («آيْشِن غِيُورُو -Aisin Gioro»)، عنْ تنصيبِ نفسِه زعيماً (خَان -Khan) لسلالةِ «جِين -Jin» العظيمةِ (أوْ الَّتي سمَّاهَا المُؤرِّخُونَ الصِّينيُّون فيمَا بعدُ باسمِ «جين -Jin») وذلكَ إشارةً إلى أسرةِ «الجُورْشِن -Jurchen» السَّابِقَةِ. وفِي عامِ 1636م (العامِ التَّاسعِ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «تشُونْغِتشين -Chongzhen» مِنْ سلالةِ «مِينْغ -Ming»)، تولَّى «هُوَانْغتَايْجِي -Huangtaiji» (الابنُ الثَّامِنُ لـ«نُورْهَاتشي -Nurhachi») مقاليدَ الحكمِ، وأعادَ تسميةَ الإمبراطوريَّةِ باسمِ إمبراطوريَّةِ «تشِينغ -Qing» العُظمَى.

وفي عامِ 1644م، زحفَ جيشُ «تشِينغ -Qing» عبرَ ممرِّ «شَانْهايَغُوَان -Shanhaiguan» نحوَ المنطقةِ الدَّاخليَّةِ بالصِّينِ، وسيطرَ علَى تلكَ المنطقةِ بالكاملِ. وفِي العامِ الثَّالثِ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «شُوَانْتُونغ -Xuantong»، تَمَّتِ الإطاحةُ بأسرةِ «تشِينغ -Qing» فِي ثورةِ 1911م، واضطرَّ بعدَ ذلكَ آخرُ إمبراطورٍ مِنْ تلكَ الأُسرةِ إلَى التَّنازُلِ عَنِ العرشِ.

لوحَةٌ لإمبرَاطُورِ أُسرَةِ «تشِينغ» يُقَدِّمُ ذَبِيحَةً فِي مذبَحِ الزِّرَاعَةِ (منظَرٌ جُزئِيٌّ)

أُسرَةُ تشِينغ المُبكِّرةُ

في عامِ 1583م (هو العامُ الحادِي عشرَ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «وَانْلِي -Wanli» مِنْ أُسرةِ «مِينغ -Ming»)، شرعَ «نُورْهَاتشِي -Nurhachi» - الَّذي كانَ تابعاً فِي الأصلِ لأباطرةِ «مِينْغ -Ming» فِي حملتِه مِنْ أجلِ توحيدِ قبائلِ «الجُورشِن -Jurchen». وفِي عامِ 1616م، نصَّبَ نفسَه زعيماً (خَان -Khan) على «جِين -Jin» العُظمَى. وبعدَ موتِهِ تولَّى ابنُهُ الثَّامنُ «هُوَانْغتَايْجِي -Huangtaiji» مقاليدَ الحكمِ، وسمَّى مُدَّةَ حكمِه باسمِ «تيَانْتشُونْغ -Tianchong». وفِي عامِ 1636م (العامِ العاشِرِ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «تِيَانْتشُونغ -Tianchong»)، قامَ «هُوَانْغتَايْجِي -Huangtaiji» بإعادةِ تسميةِ إمبراطوريَّتِه باسمِ «تشِينغ -Qing» وفترةِ حكمِه باسمِ «تشُونْغِدِه -Chongde». وفِي 1636م (العامِ الأوَّلِ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «تشُونْغدِه -Chongde»)، قامَ «هُوَانْغتَايجي -Huangtaiji» بغزوِ كُورْيَا. وبعدَ ذلكَ بفترةٍ وجيزةٍ قامَ بضمِّ كاملِ أراضِي «مَنْغُولْيَا -Mongolia» وكذلكَ شمالِ شرقيِّ الصِّينِ إلَى مملكتِه. ومِثْلَمَا اجتاحَتْ ثوراتُ الفلَّاحِينَ منطقةَ «مِينْغ -Ming»، قامَ جيشُه بالزَّحفِ ضدَّ تلكَ الإمبراطوريَّةِ، واستولَى علَى «جِينْتشُو -Jinzhou» و«جِينْغيُوَان -Jingyuan» وبعضِ الأراضِي الأُخرى مِنَ جيشِ «مِينْغ -Ming» علَى التَّوالِي، مُمهِّداً الطَّريقَ للتَّحرُّكِ نحوَ المنطقةِ الدَّاخليَّةِ. لكنَّه تُوُفِّيَ فجأةً بمرضٍ أصابَه، وتركَ مقاليدَ الحُكمِ لابنِه التَّاسعِ «فُولِينَ -Fulin» (الإمبراطورِ «شُونْتشي -Shunzhi»)، الَّذي أعادَ تسميةَ عهدِه باسمِ «شُونْتشي -Shunzhi». وفِي عامِ 1644م (العامِ السَّابعَ عشرَ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «تشُونْغتشِن -Chongzhen» مِنْ أسرةِ «مِينْغ -Ming»، والعامِ الأوَّلِ منْ حكمِ الإمبراطورِ «شُوَنْتشي -Shunzhi» مِنْ أُسرةِ «تشِينغ -Qing»)، قادَ «لِي تسِيتشينغ -Li Zicheng» مُتمرِّدِي الفلَّاحِينَ نحوَ بِكِينَ وأطاحَ بأسرةِ «مِينْغ -Ming». وقامَ الإمبراطورُ «تشُونْغتِشِن -Chongzhen» بشنقِ نفسِه. وتمرَّدَ «وُو شَانْغِي -Wu Sangui» (وهوَ جنرالٌ مِنْ حامياتِ «مِينْغ -Ming» الَّتي كانتْ تتولَّى حراسةَ طريقِ «شَانْهايغُوَان -Shanhaiguan») فسمحَ لقوَّاتِ «تشِينغ -Qing» بالدُّخولِ إلَى عمقِ الأراضِي الصِّينيَّةِ. وزحفَ جيشُ «تشِينغ -Qing» داخلَ بِكِينَ دونَ أنْ تكونَ هناكَ أيَّةُ مقاومةٍ، وأصبحَتْ أسرةُ تشِينغ الأُسرةَ الجديدةَ الحاكمةَ فِي الصِّينِ. وبعدَ سقوطِ أسرةِ «مِينْغ -Ming»، أنشأَ فلولُ الجماعةِ الإمبراطوريَّةِ عدداً مِنَ الأنظمةِ فِي الجزءِ الجنوبيِّ مثلِ نظامِ «لُونْغُوو -Longwu» ونظامِ «لُوَانْغ -Luwang» ونظامِ «شَاوو -Shaowu» ونظامِ «يُونْغِلِي -Yongli». ومعَ ذلكَ فقدْ هزمتْهُم أسرةُ «تشِينغ -Qing» جميعاً واحداً تلوَ الآخرِ، لكنّ حكمَهَا لم يستَقِرَّ إلا بعد 20 عاماً، لأنَّها واجهتْ مقاومةً مُستمِرَّةً.

صُورَةٌ زَيتيَّةٌ مِن جولةٍ تَفَقُّدِيَّةٍ للإِمْبِرَاطُورِ «تشِيَان لُونْغ» فِي المنطقَةِ الوَاقِعةِ جنوبَيِّ نَهرِ الـ«يَانغِتْسِي» (مَنظَرٌ جُزئِيٌّ)

وبعدَ أنْ قامَتْ بقمعِ جميعِ القوَى المُعارِضةِ لهَا فِي الدَّولةِ، بدأتْ أسرةُ «تشِينغ -Qing» حملاتِهَا في المناطقِ الحدوديَّةِ خاصَّةً المناطقَ الحدوديَّةَ الشَّماليَّةَ. وكانَ هذَا بمنزلةِ التَّوحيدِ الحقيقيِّ للبلادِ أثناءَ حكمِ الأباطرةِ الثَّلاثةِ، «كَانْغِشِي -Kangxi» و«يُونْغ تشِينْغ -Yongzheng» و«تشِيَان لُونْغ -Qianlong». ونظراً للوضعِ الَّذي كانتْ عليه الأرضُ الَّتي تمَّ الاستيلاء عليهَا مُؤخَّراً، ومِنْ أجلِ توطيدِ حكمِهَا وتوحيدِ البلادِ فِي أقربِ وقتٍ مُمكِنٍ، وضعتْ أسرةُ «تشِينغ -Qing» عدداً مِنَ الإجراءاتِ فِي بدايةِ حكمِهَا، مثلِ إلغاءِ الضَّرائبِ الثَّلاثِ الجديدةِ الَّتي فرضتْهَا أسرةُ «مِينْغ -Ming» فِي أواخرِ أيَّامِهَا (وهيَ ضرائبُ لتأمينِ المُؤنِ للجيشِ المُتمركزِ فِي «ليَاوْدُونغ -Liaodong»، وضرائبُ لقمعِ ثوراتِ الفلَّاحِين،َ وضرائبُ لتدريبِ القوَّاتِ)، وقامت بتشجيعِ استصلاحِ الأراضِي القاحلةِ وتخفيفِ أعدادِ الفلَّاحِينَ المَنفِيِّينَ، وخفضِ الضَّرائبِ والسُخرةِ واستعادةِ الإنتاجِ الزَّراعيِّ، وتوظيفِ مسؤولِي وضبَّاطِ مِينْغ، وإجراءِ الاختباراتِ الإمبراطوريَّةِ مِنَ أجلِ توظيفِ أصحابِ المواهبِ، وفرضِ الانضباطِ العسكريِّ الصَّارمِ وقمعِ الفسادِ. وقدْ أثبتَتْ تلكَ الإجراءاتُ فاعِليَّتَهَا فِي تعزيزِ الحُكمِ الأُسريِّ وتصحيحِ المسارِ الاقتصاديِّ، وذلكَ لأنَّهَا أعجَبَتِ النُّخبةَ فِي المناطقِ الَّتي تقطنُهَا أسرةُ هَان، وأدَّتْ إلَى استقرارِ حياةِ ومشاعرِ جموعِ الشَّعبِ. وفِي الوقتِ نفسِهِ، قامَ حُكَّامُ «تشِينغ -Qing» بتطبيقِ مجموعةٍ مِنَ السِّياساتِ المُتعلِّقةِ بالتَّمييزِ وقمعِ مَنْ ينتمِي إلَى أُسرةِ هَان مِنَ الصِّينيِّينَ، مثلِ قرارِ الحلاقةِ ومرسومِ تطويقِ الأرضِ بسياجٍ، وقانونِ الرِّقِّ وقانونِ الهروبِ مِنَ الجُنديَّةِ.

حُكمُ أَنظِمَةِ الإِمبِرَاطُورِ كانغَ شِي، والإِمبراطُورِ يُونغ تشِينْغ، والإِمبرَاطُورِ تشِيَان لُونْغ

جاءَ بعدَ عهدِ الإمبراطورِ «شُونْتشي -Shunzhi» أباطرةٌ مثلُ «كَانْغ شِي -Kangxi» و«يُونْغ تشينغ -Yongzheng» و«تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، وعُرِفتْ تلكَ المرحلةُ فِي التَّاريخِ الصِّينيِّ باسمِ العصرِ الذَّهبيِّ لـ«كَانْغِشِي يُونْغِتِشِنْغ -Kangxi-Yongzheng» و«تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، وذلكَ نظراً لمَا شهِدَتْهُ تلكَ المرحلةُ مِنَ ازدهارٍ اقتصاديٍّ واستقرارٍ اجتماعيٍّ، وبلغتِ القوَّةُ الوطنيَّةُ فيه ذُروتَهَا. وخلالَ مُدَّةِ حكمِ أسرةِ «تشِينْغ -Qing»، بلغَتْ عمليَّةُ تطويرِ الصِّناعاتِ اليدويَّةِ أعلَى مستوىً لهَا فِي التَّاريخِ الإقطاعيِّ للصِّينِ، فصناعةُ المنسوجاتِ تطوَّرتْ لتُصبحَ أكثرَ الصِّناعاتِ أهمِّيَّةً، وعمِلَ كلٌّ مِنْ «نَانْجِينغ -Nanjing» و«سُوتُشُو -Suzhou» و«هانْغُتُشُو -Hangzhou» علَى إنشاءِ مراكزَ رئيسةٍ لهَا. ووصلَتْ كذلكَ الصِّناعاتُ التَّعدينيَّةُ والفلزِّيَّةُ إلَى مستوىً عالٍ نسبيّاً، وذلكَ معَ تربُّعِ مقاطعةِ «يُونَّان -Yunnan» علَى العرشِ كونَهَا أكبرَ مركزٍ تعدينيٍّ للنُّحاسِ مِنْ حيثُ الحجمُ فِي الصِّينِ. وإبَّانَ ذلكَ احتفظتِ الصِّناعاتُ الخزفيَّةُ بمكانتِهَا كصناعةٍ تقليديَّةٍ أساسيَّةٍ، وكانتْ مدينةُ «جينْغدِتِشِن -Jingdezhen» الأكثرَ شهرةً فِي تلكَ الصِّناعةِ. وعلَى الرَّغمِ مِنْ بدايةِ انتشارِ الرَّأسماليَّةِ فِي الصِّينِ فِي تلكَ المرحلةِ، إلَّا أنَّ نظامَ «تشِينْغ -Qing» الحاكمَ قامَ بتطبيقِ سياسةِ القمعِ التِّجاريِّ الَّتي قيَّدَتْ عمليَّةَ تطوُّرِ الصِّناعاتِ اليدويَّةِ بشكلٍ حرٍّ. وأدَّتْ وسائلُ التَّنميَّةِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ إلَى بروزِ العديدِ مِنَ المدنِ الكبرَى فِي جميعِ أنحاءِ الصِّينِ. وأصبحتْ بِكِينُ عاصمةُ البلادِ مركزاً سياسِيّاً وثقافيّاً، وقوميّاً أيضاً. وجذبَتْ «يَانْغتشُو -Yangzhou» رجالَ الأعمالِ الأثرياءِ والتُّجَّارَ مِنْ خلالِ اقتصادِهَا المُتنامِي بشكلٍ جيِّدٍ وموقعِها كمركزِ توزيعٍ لملحِ «هُوَاي -Huai» (هو نوعُ مِنَ الملحِ يتمُّ إنتاجُهُ فِي حوضِ «هُوَايْخِه -Huaihe»). وزادتْ مكانةُ كلٍّ مِنْ «نَانْجِينْغ -Nanjing» و«سُوتشُو -Suzhou» و«هَانْغتشُو -Hangzhou» لاحتوائهم على طبيعةٍ ساحرةٍ ومناظرَ خلَّابةٍ وتقدُّمٍ ثقافيٍّ، حتَّى غدتْ مراكزَ للحريرِ والأقمشةِ وغيرِها مِنَ الصِّناعاتِ اليدويَّةِ. وتحوَّلتْ «غُوَانْغزو -Guangzhou» إلَى ميناءٍ للتِّجارةِ الخارجيَّةِ، وجسرٍ أَساسِيٍّ يربطُ جمهوريَّةِ الصِّينِ الإقطاعيَّةِ الحبيسةِ ببقيَّةِ العالَمِ. وظهرتْ مدينةُ «هَانْكُو -Hankou» (هي جزءٌ مِنْ ميناءِ «وُوهَان -Wuhan» حاليّاً) كمركزٍ لتوزيعِ الحبوبِ والأخشابِ والملحِ والموادِّ الطِّبِّيَّةِ وكثيرٍ مِنَ البضائعِ الأخرى المُتنوِّعةِ. وشرعَتْ أسرةُ «تشِينغ -Qing» فِي استغلالِ المناطقِ الحدوديَّةِ منذُ عهدِ الإمبراطورِ «كَانْغِشِي -Kangxi». ومنذُ العامِ الثَّانِي عشرَ حتَّى العامِ العشرِينَ مِنْ مدَّةِ حكمِه، قامَ بقمعِ ثوراتِ الإقطاعيِّينَ الثَّلاثةِ («وُو سَانْغوي -Wu Sangui» و«غِنْغ جِينْغ تشُونْغ -Geng Jingzhong» و«شَانْغ تشِي شِين -Shang Zhixin» وهو ابنُ «كِيشِي -Kexi»)، وذلكَ للحفاظِ علَى الوحدةِ الوطنيَّةِ للبلادِ، وفِي العامِ الثَّانِي والعشرِينَ مِنْ مدَّةِ حكمِه، خضعَتْ تَايْوَانُ للحكمِ المركزيِّ المُتمثِّلِ فِي نظامِ «تشِينغ -Qing» الحاكمِ تحتَ إدارةٍ اتَّخذَتْ مِنْ جزيرةِ تَايْوَانَ مقرّاً لهَا.

لوحَةُ جَنيِ أَوْرَاقِ التُّوتِ، لرسَّامِ أُسرَةِ «تشِينغ»
لوحَةٌ تُجسِّدُ منظرَ الحرثِ وتنْظِيمِ أَحواضِ الأَرضِ، لرسَّامٍ من أُسرَةِ «تشِينغ»

وفِي العامِ السَّابعِ والعشرِينَ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi» قامَ بنفسِه بقيادةِ ثلاثِ حَمْلاتٍ ضدَّ المُتمرِّدِينَ، وذلكَ عندَما قادَ «غَالدان -Galdan» قوَّاتِ «جَانْغَار -Junggar» التَّابعةَ لَه للثَّورةِ ضدَّ أُسرةِ «تشِينغ -Qing». وفِي العامِ الثَّانِي والعشرِينَ مِنْ مدَّةِ حُكمِ حفيدِه الإمبراطورِ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، قامَ مُتمرِّدُو «جَانْغَار -Junggars» بالثَّورةِ ضدَّه مرَّةً أُخرَى، ليُلاقوا نفسَ مَا لَاقَاهُ أسلافُهُم ويفقدُوا المنطقةَ المُمتدَّةَ مِنْ شمالِ جبالِ «تِيَانْشَان -Tianshan» بالكاملِ لصالحِ نظامِ «تشِينغ -Qing»، وفِي العامِ الرَّابعِ والعشرِينَ مِنْ مدَّة حكمِ ابنِهِ الإمبراطورِ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، تَمَّ قمعُ ثوَّارِ «هُوِي -Hui» ودمجُ جنوبِ «شينْجِيَانغ -Xinjiang» فِي إقليمِ «تشِينغ -Qing»، وفِي العامِ التَّاسعِ والخمسينَ منْ حُكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi»، تمركزَ أحدُ رعايَا «تشِينغ -Qing» وحاميتُه فِي منطقةِ «التِّبتِ -Tibet» مِنْ أجلِ الاحتفاظِ بسيادةِ الصِّينِ عليهَا، وأثناءَ مدَّةِ حُكمِ الإمبراطورِ «يُونْغ تشِينْغ -Yongzheng»، عمَّت بيروقراطيَّةُ المُوظَّفِينَ الأصليِّينَ (كإلغاءِ الـ«طوسي -Tusi» وهو لقبٌ وراثيٌّ رسميٌّ، وتعيينِ «لِيُوغُوَان -liuguan» بصلاحيَّاتٍ مَحدودةٍ) بشكلٍ كبيرٍ فِي «يُونَّان -Yunnan» و«غُوِيتْشُو -Guizhou» و«غُوَانْغِشِي -Guangxi» و«سيتُشُوَان -Sichuan» و«خُونَان -Hunan». وركَّزتْ سياسةُ «تشِينغ -Qing» الأساسيَّةُ تجاهَ الجماعاتِ العِرقيَّةِ الحدوديَّةِ علَى الحفاظِ علَى عاداتِهِم وأنماطِ حياتِهِم وأديانِهِم، وعلَى تعزيزِ السَّيطرةِ والحكمِ الإمبراطوريِّ مِنْ خلالِ اتِّخاذِ بعضِ الإجراءاتِ الَّتي تتماشَى معَ مَا تتطلَّبُه الظُّروفُ الخاصَّةُ بكلِّ منطقةٍ. وتمَّ اتِّخاذُ مجموعةٍ مِنَ الإجراءاتِ كذلكَ مِنْ أجلِ توحيدِ وتجميعِ النُّخبةِ مِنَ الجماعاتِ العِرقيَّةِ. ونتيجةً لعمليَّةِ توحيدِ البلادِ الَّتي قامتْ بِهَا أسرةُ «تشِينغ -Qing»، نعِمَتْ تلكَ القوميَّاتُ الحدوديَّةُ بسنواتٍ طويلةٍ مِنَ الاستقرارِ والنُّموِّ الاقتصاديِّ السَّريعِ، وارتفعَتْ مستوياتُ معيشتِهِم فِي ظلِّ إدارةِ الحكومةِ المركزيَّةِ. ونظراً لأعدادِ السُّكَّانِ الَّتي استمرَّتْ فِي الازديادِ، فقدْ هاجرَ عددٌ كبيرٌ مِنْ أفرادِ شعبِ «هَان -Han» مِنَ المناطقِ النَّائيةِ إلَى المناطقِ الحدوديَّةِ، فتسبَّبَتْ هذه الهجرة بحدوثِ انتعاشٍ للحالةِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ والثَّقافيَّةِ في تلكَ المناطقِ. وفِي الوقتِ نفسِهِ، عمِلَتْ حكومةُ «تشِينغ -Qing» علَى تعزيزِ إنشاءِ الطُّرقِ والمحطَّاتِ بدرجةٍ كبيرةٍ، وقدْ نتجَ عنْ تلكَ الجهودِ إنشاءُ شبكةِ طرقٍ تنتشرُ مِنْ بِكِينَ إلَى جميعِ المناطقِ الحدوديَّةِ. وفِي نهايةِ القرنِ السَّادسَ عشرَ وأوائلِ القرنِ السَّابعَ عشرَ، شرعَتْ رُوسْيَا فِي هجومِها على المناطقِ المنغوليَّةِ والشَّماليَّةِ الصِّينيَّةِ. وفِي عامِ 1658م (السَّنةِ الخامسةَ عشرةَ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «شُونْتشي -Shunzhi»)، قضَى جيشُ «تشِينغ -Qing» علَى جماعاتِ «القُوزاقِ -Cossacks» الَّتي غزتِ البلادَ. لكنَّ الرُّوسَ قامُوا بتحصينِ أنفسِهِم فِي «نِرْتِشِينسْك -Nerchinsk» عبرَ الرَّوافدِ العليَا لنهرِ «هِيلُونْغ جِيَانغ -Heilongjiang»، وقامُوا بالاستيلاءِ علَى «يَاكْسَا -Yaksa» فيمَا بعدُ. وفِي المُدَّةِ الَّتي توسَّطتِ العامَ الرَّابعَ والعشرِينَ والخامسَ والعشرِينَ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi»، قامَ جيشُ «تشينغ -Qing» بشنِّ حملتَيْنِ علَى «يَاكْسَا -Yaksa». وفِي العامِ الثَّامنِ والعشرِينَ مِنْ حكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi» قامَ بنفسِه بقيادةِ ثلاثِ حَمْلاتٍ ضدَّ المُتمرِّدِينَ، وذلكَ عندَما قادَ «غَالدان -Galdan» قوَّاتِ «جَانْغَار -Junggar» التَّابعةَ لَه للثَّورةِ ضدَّ أُسرةِ «تشِينغ -Qing». وفِي العامِ الثَّانِي والعشرِينَ مِنْ مدَّةِ حُكمِ حفيدِه الإمبراطورِ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، قامَ مُتمرِّدُو «جَانْغَار -Junggars» بالثَّورةِ ضدَّه مرَّةً أُخرَى، ليُلاقوا نفسَ مَا لَاقَاهُ أسلافُهُم ويفقدُوا المنطقةَ المُمتدَّةَ مِنْ شمالِ جبالِ «تِيَانْشَان -Tianshan» بالكاملِ لصالحِ نظامِ «تشِينغ -Qing»، وفِي العامِ الرَّابعِ والعشرِينَ مِنْ مدَّة حكمِ ابنِهِ الإمبراطورِ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، تَمَّ قمعُ ثوَّارِ «هُوِي -Hui» ودمجُ جنوبِ «شينْجِيَانغ -Xinjiang» فِي إقليمِ «تشِينغ -Qing»، وفِي العامِ التَّاسعِ والخمسينَ منْ حُكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi»، تمركزَ أحدُ رعايَا «تشِينغ -Qing» وحاميتُه فِي منطقةِ «التِّبتِ -Tibet» مِنْ أجلِ الاحتفاظِ بسيادةِ الصِّينِ عليهَا، وأثناءَ مدَّةِ حُكمِ الإمبراطورِ «يُونْغ تشِينْغ -Yongzheng»، عمَّت بيروقراطيَّةُ المُوظَّفِينَ الأصليِّينَ (كإلغاءِ الـ«طوسي -Tusi» وهو لقبٌ وراثيٌّ رسميٌّ، وتعيينِ «لِيُوغُوَان -liuguan» بصلاحيَّاتٍ مَحدودةٍ) بشكلٍ كبيرٍ فِي «يُونَّان -Yunnan» و«غُوِيتْشُو -Guizhou» و«غُوَانْغِشِي -Guangxi» و«سيتُشُوَان -Sichuan» و«خُونَان -Hunan». وركَّزتْ سياسةُ «تشِينغ -Qing» الأساسيَّةُ تجاهَ الجماعاتِ العِرقيَّةِ الحدوديَّةِ علَى الحفاظِ علَى عاداتِهِم وأنماطِ حياتِهِم وأديانِهِم، وعلَى تعزيزِ السَّيطرةِ والحكمِ الإمبراطوريِّ مِنْ خلالِ اتِّخاذِ بعضِ الإجراءاتِ الَّتي تتماشَى معَ مَا تتطلَّبُه الظُّروفُ الخاصَّةُ بكلِّ منطقةٍ. وتمَّ اتِّخاذُ مجموعةٍ مِنَ الإجراءاتِ كذلكَ مِنْ أجلِ توحيدِ وتجميعِ النُّخبةِ مِنَ الجماعاتِ العِرقيَّةِ. ونتيجةً لعمليَّةِ توحيدِ البلادِ الَّتي قامتْ بِهَا أسرةُ «تشِينغ -Qing»، نعِمَتْ تلكَ القوميَّاتُ الحدوديَّةُ بسنواتٍ طويلةٍ مِنَ الاستقرارِ والنُّموِّ الاقتصاديِّ السَّريعِ، وارتفعَتْ مستوياتُ معيشتِهِم فِي ظلِّ إدارةِ الحكومةِ المركزيَّةِ. ونظراً لأعدادِ السُّكَّانِ الَّتي استمرَّتْ فِي الازديادِ، فقدْ هاجرَ عددٌ كبيرٌ مِنْ أفرادِ شعبِ «هَان -Han» مِنَ المناطقِ النَّائيةِ إلَى المناطقِ الحدوديَّةِ، فتسبَّبَتْ هذه الهجرة بحدوثِ انتعاشٍ للحالةِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ والثَّقافيَّةِ في تلكَ المناطقِ. وفِي الوقتِ نفسِهِ، عمِلَتْ حكومةُ «تشِينغ -Qing» علَى تعزيزِ إنشاءِ الطُّرقِ والمحطَّاتِ بدرجةٍ كبيرةٍ، وقدْ نتجَ عنْ تلكَ الجهودِ إنشاءُ شبكةِ طرقٍ تنتشرُ مِنْ بِكِينَ إلَى جميعِ المناطقِ الحدوديَّةِ. وفِي نهايةِ القرنِ السَّادسَ عشرَ وأوائلِ القرنِ السَّابعَ عشرَ، شرعَتْ رُوسْيَا فِي هجومِها على المناطقِ المنغوليَّةِ والشَّماليَّةِ الصِّينيَّةِ. وفِي عامِ 1658م (السَّنةِ الخامسةَ عشرةَ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «شُونْتشي -Shunzhi»)، قضَى جيشُ «تشِينغ -Qing» علَى جماعاتِ «القُوزاقِ -Cossacks» الَّتي غزتِ البلادَ. لكنَّ الرُّوسَ قامُوا بتحصينِ أنفسِهِم فِي «نِرْتِشِينسْك -Nerchinsk» عبرَ الرَّوافدِ العليَا لنهرِ «هِيلُونْغ جِيَانغ -Heilongjiang»، وقامُوا بالاستيلاءِ علَى «يَاكْسَا -Yaksa» فيمَا بعدُ. وفِي المُدَّةِ الَّتي توسَّطتِ العامَ الرَّابعَ والعشرِينَ والخامسَ والعشرِينَ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «كَانْغ شِي -Kangxi»، قامَ جيشُ «تشينغ -Qing» بشنِّ حملتَيْنِ علَى «يَاكْسَا -YKangxi» (1689م)، أبرمَتْ أسرةُ «تشِينغ -Qing» معَ رُوسْيَا معاهدةَ «نِيرْتِشِينسْك -Nerchinsk»، الَّتي حقَّقتْ بعضَ الجوانبِ الَّتي تتعلَّقُ بالسِّلميَّةِ ونموِّ التِّجارةِ عبرَ الحدودِ الشَّرقيَّةِ للصِّينِ. ومعَ ذلكَ فقدِ استمرَّتْ حالةُ التَّوترِ الشَّديدِ علَى طولِ الحدودِ الشَّماليَّةِ بسببِ انتهاكاتِ القوَّاتِ الرُّوسيَّةِ المُستمرَّةِ لتلكَ المعاهدةِ فِي المنطقةِ المنغوليَّةِ. وفِي عامِ 1727م (العامِ الخامسِ منْ حُكمِ الإمبراطورِ يُونْغ «تشِينْغ -Yongzheng»)، وقَّعتْ حكومةُ «تشِينغ -Qing» معاهدةَ «كِيَاخْتَا -Kyakhta» معَ رُوسْيَا مِنْ أجلِ الاستجابةِ بشكلٍ كاملٍ لطلبِ رُوسْيَا ترسيمَ الحدودِ الشَّماليَّةِ.

سقُوطُ أُسرَةِ تشِينغ

شهِدَتْ أسرةُ «تشينغ -Qing» نهايةَ عصرِ مجدِهَا وبدايةَ انحطاطِهَا فِي أواخرِ سنواتِ حكمِ الإمبراطورِ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong». وخلالَ حكمِ ابنِه الإمبراطورِ «جِيَا تشِنغ -JiaQing» وحفيدِه الإمبراطور «دَاوْغُوَانْغ -Daoguang»، نُزعتِ الأراضِي الَّتي كانتْ مصادرَ كسبٍ للفلَّاحِينَ منْهُم بطريقةٍ جائرةٍ، هذَا بالإضافةِ إلَى الزِّياداتِ الهائلةِ فِي أسعارِ الحبوبِ بفعلِ الفيضاناتِ والجفافِ والأوبئةِ الَّتي تُسبِّبُها الحشراتُ عاماً بعدَ عامٍ، وأصبحتِ المجاعاتُ وحركاتُ الفوضَى المشهدَ الأكثرَ هيمنةً علَى المشهدِ اليوميِّ. واستمرَّتِ الطَّبقةُ الحاكمةُ فِي فرضِ الضَّرائبِ والرُّسومِ الباهظةِ علَى الشَّعبِ لكَي يوفِّرُوا مُتطلَّباتِ حياتِهِم الباهظةَ ومَلذَّاتِهِمُ المُفْرِطَةَ وأهملُوا واجباتِهم فِي إدارةِ الدَّولةِ، وأدَّى عدمُ الانضباطِ وانخفاضُ الرُّوحِ المعنويَّةِ بينَ الضُّبَّاطِ والأفرادِ إلَى إضعافِ القوَّاتِ المُسلَّحةِ بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً. ونتيجةً لذلكَ، فقدْ ثارَ الفلَّاحُونَ فِي جميعِ أنحاءِ البلادِ، وغدَتْ ثوراتُ اللُّوتسِ البيضاءُ فِي «سِيتُشُوَان -Sichuan» و«خُوبِي -Hubei» فِي 1769م (العامِ الأوَّلِ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ «جِيَا تشينغ -Jiaqing») أكبرَ الثَّوراتِ الَّتي حدثَتْ فِي ذلكَ الوقتِ. وفِي أوائلِ القرنِ التَّاسعَ عشرَ، قامَ المُستعمِرُونَ البريطانيُّونَ بتصديرِ كمِّيَّاتٍ كبيرةٍ مِنَ الأفيونِ إلَى الصِّينِ، وحقَّقُوا أرباحاً كبيرةً، ذلكَ فِي الوقتِ الَّذي أقحمُوا فيهِ الصِّينَ فِي مُستنقَعٍ كارثيٍّ. وقدْ أدَّى إدمانُ الأفيونِ إلَى تثبيطِ عزائمِ المُوظَّفِينَ والجنودِ الصِّينيِّينَ، فَضَعُفَتْ حماسَتهُم فِي تدبيرِ شؤونِ الحكمِ وفي التَّدريباتِ العسكريَّةِ، كمَا أنَّه أدَّى إلَى خفضِ الإيراداتِ الماليَّةِ لحكومةِ «تشينغ -Qing» بفعلِ التَّداولِ الفوضويِّ للعملاتِ واستنزافِ المواردِ الضَّريبيَّةِ. وفِي عامِ 1839م، قامَ الإمبراطورُ «داوغُوَانْغ -Daoguang» بإرسالِ «لِين تشيشو -Lin Zexu» ليكونَ مُفوَّضاً مِنْ قِبلِ الإمبراطوريَّةِ مِنْ أجلِ حظرِ تجارةِ الأفيونِ فِى «غُوَانْغزو -Guangzhou». وقامَ «لِين -Lin» بمصادرةِ أكثرَ مِنْ 20 ألف صندوق أفيونِ، ثَمَّ قامَ بتدميرِها بالكاملِ فِي «هُومِن -Humen». وقدْ أدَّى حظرُ تجارةِ الأفيونِ إلَى إلحاقِ ضررٍ مُباشرٍ بمصالحِ التُّجَّارِ البريطانيِّينَ العاملِينَ فِي الصِّينِ. وفِي عامِ 1840م، شرعتِ الحكومةُ البريطانيَّةُ فِي غزوِهَا المُتعمَّدِ للصِّينِ، أوْ مَا يُسمَّى بحربِ الأفيونِ الأولَى كمَا هوَ معروفٌ تاريخيّاً، وقبلَتْ محكمةُ «تشينغ -Qing» جميعَ المُطالباتِ الَّتي قدَّمَها البريطانيُّونَ المُعتدُونَ. وفِي 29 أغسطس/آب مِنْ عامِ 1842م، أبرمتْ حكومةُ «تشينغ -Qing» معَ بريطانيَا أوَّلَ معاهدةٍ جائرةٍ فِي تاريخِ الصِّينِ، معاهدةِ «نَانْجِينْغ -Nanjing»، الَّتي أعقبتْهَا معاهدةُ «وَانْغِيَا -Wanghia» (وَانْغشيَا -Wangxia) معَ الولاياتِ المُتَّحِدةِ ومعاهدةُ «وَامْبُوَا -Whampoa» (هُوَانْغُبُو -Huangpu) معَ فَرَنْسَا. وتحالفتْ أيضاً كلٌّ مِنْ بريطَانيا وفرنسَا فِي عامِ 1856م فِي حربِهِما العدوانيَّةِ ضدَّ الصِّينِ -حربِ الأفيونِ الثَّانيةِ كمَا هوَ معروفٌ تاريخيّاً– بذريعةِ إهانةِ جنودِ «تشينغ -Qing» الموجودِينَ فِي «غُوَانْزو -Guangzhou» لبِرِيْطَانْيَا مِنْ خلالِ تفتيشِهِم لسفينةٍ صينيَّةٍ مُسجَّلَةٍ فِي هُونْج كُونْج كانتْ تحملُ العَلَمَ البريطانيَّ، وذلكَ كمَا زعمَتْ بريطانيَا، بينما زعمَتْ فرنسا أنَّ أحدَ مُبشِّرِيهَا، وهوَ الأبُ «أُغُسْطُس تشَابْدِيلَايِن -August Chapdelaine» قدْ قُتِل علَى أيدِي السُّلطاتِ المحلِّيَّةِ بِـ«غُوَانْزو -Guangzhou». وفِي عامِ 1860م، فرضتِ القوَّاتُ الأنجلوفرنسيَّةُ معاهداتِ «تيَانْتسن -Tientsin» (تِيَانْجِين -Tianjin) واتِّفاقيَّةَ «بِكِينْغ -Peking» (بِكِينَ -Beijing) أثناءَ حُكمِ أُسرةِ «تشينغ -Qing». وكذلكَ انتهزَتْ رُوسْيَا تلكَ الفرصةَ ففرضتْ معاهدةَ «إِيغُون -Aigun» (إِيهُوِي -Aihui) والاتِّفاقيَّةَ الصِّينيَّةَ الرُّوسيَّةَ بِـ«بِكِينْغ -Peking» (بِكِينَ -Beijing) بشأنِ نظامِ «تشينغ -Qing» الحاكمِ، وذلك تمهيداً لغزوِ واحتلالِ منطقةِ غربِ الصِّينِ. وقدْ تسبَّبتْ تلكَ المُعاهداتُ الجائرةُ فِي إهدارِ كثيرٍ مِنْ أراضِي الصِّينِ وسيادتِها وثروتِهَا. وتُعدُّ تلكَ المُعاهداتُ انحداراً بالإمبراطوريَّةِ نحوَ مُجتمَعٍ شبهِ استعماريٍّ وشبهِ إقطاعيٍّ. وقدْ أدَّتْ كثرةُ التَّناقُضاتِ المحلِّيَّةِ والعدوانُ الخارجيُّ إلَى تفاقمِ أزمةِ أسرةِ «تشينغ -Qing» الحاكمةِ، وحدوثِ عددٍ كبيرٍ مِنْ ثوراتِ الفلَّاحِينَ، ومِنْ بينِهَا ثورةُ «تايبِينْغ -Taiping» عامَ 1851م، الَّتي كانت أكبرَ تلكَ الثَّوراتِ. وسعياً للتَّخلُّصِ مِنْ تلكَ التَّناقُضاتِ بشكلٍ ذاتيٍّ وتعزيزِ السُّلطةِ الوطنيَّةِ، قامَ بعضُ مسؤولِي حكومةِ «تشينغ -Qing» من ذوِي الحنكةِ بالشُّروعِ فِي إجراءِ بعضِ الإصلاحاتِ الَّتي تستهدِفُ مواكبةَ العصرِ، وأبرزُهَا حركةُ التَّعزيزِ الذَّاتيِّ فِي ستينيَّاتِ القرنِ التَّاسعَ عشرَ الَّتي نظَّمَهَا ممثِّلونَ مثلُ «يِي شِين -Yixin» و«لِي هُونْغَتَشَانْغ -Li Hongzhang» و«تشَانْغ تشيدُونْغ -Zhang Zhidong».

خريطَةُ الوضعِ الحَاليِّ، تُبَيِّنُ بوضُوحٍ كيفَ قَامتِ القُوَى الإِمبريالِيَّةُ بتمزيقِ إِمبراطوريَّةِ «تشِينغ» العُظمى، قَامَ برَسمِهَا أَحَدُ الشَّخصِيَّاتِ الوطنِيَّةِ قُبيلَ نِهَايَةِ أُسرةِ «تشِينغ»

وقدْ نادَى هؤلاءِ بالعملِ علَى استردادِ مواطنِ القوَّةِ مِنَ الدُّولِ الخارجيَّةِ مِنْ أجلِ معالجةِ نقاطِ الضَّعفِ الَّتي نتجَتْ عنِ النِّظامِ الإقطاعيِّ. ومعَ ذلكَ فقدْ قُوبِلَتْ مواقفُهُم وتحرُّكاتُهُم بمعارضةٍ قويَّةٍ مِنْ قِبَلِ المُحافِظِينَ. وبالرَّغمِ مِنْ ذلكَ، قامتْ حركةُ التَّعزيزِ الذَّاتيِّ بمساعدةِ نظامِ «تشينغ -Qing» الحاكمِ علَى إعدادِ العُدَّةِ للتَّعامُلِ معَ القوَى الأجنبيَّةِ وبناءِ أسطولٍ حربيٍّ وتعزيزِ عمليَّةِ تطويرِ الصِّناعةِ والتِّجارةِ. وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّ عمليَّةَ إجراءِ الإصلاحِ كانتْ تَتِمُّ فِي ظلِّ شروطِ عدمِ انتهاكِ النِّظامِ الإقطاعيِّ الفاسدِ، إلَّا أنَّ حركةَ التَّعزيزِ الذَّاتيِّ قدْ قُدِّر لهَا الفشلُ فِي نهايةِ الأمرِ. وقدْ أخفقَتْ تلكَ الحركةُ بالتَّزامُنِ مَعَ هزيمةِ الصِّينِ فِي حربِهَا عامَ 1894م ضدَّ اليَابَانِ. واشتملتِ الحروبُ الَّتي بدَأتْهَا القُوَى الخارجيَّةُ ضدَّ الصِّينِ منذُ سبعينيَّاتِ القرنِ الثَّامنَ عشرَ علَى اجتياحِ رُوسْيَا لِـ«إِيلِي -Ili» فِي عامِ 1871م، والإنزالِ المُسلَّحِ لليابانيِّينَ فِي تَايْوَانَ عامَ 1874م، والتَّدخُّلِ المُسلَّحِ لبِرِيْطَانْيَا فِي التِّبتِ عامَ 1888م، والحربِ الصِّينيَّةِ اليابانيَّةِ عامَيْ 1894م - 1895م، واجتياحِ قوَّاتِ القُوَى الثَّمانِي المُتحالِفةِ فِي عامِ 1900م، واحتلالِ الإمبراطوريَّةِ الرُّوسيَّةِ لمنطقةِ شمالِ شرقيِّ الصِّينِ فِي عامِ 1900م، والحربِ الرُّوسيَّةِ اليابانيَّةِ عامَيْ (1904 - 1905م)، وتدخُّلِ بريطانيَا مرَّةً أخرَى فِي منطقةِ التِّبْتِ عامَ 1904م. وقدْ عانتِ الصِّينُ في مُدَّةٍ تُقاربُ نصفَ القرنِ أكثرَ مِنْ 10 حروبٍ شنَّتْهَا قوىً أجنبيَّةٌ سواء كانتْ بشكلٍ مُستقِلٍّ أوْ مُشتَركٍ بينَهم، أوْ مَا يقتربُ مِنْ حربٍ واحدةٍ فِي كلِّ خمسِ سنواتٍ. وكانَ الغزاةُ الأجانبُ فِي كلِّ مرَّةٍ يُجبِرُون نظامَ «تشينغ -Qing» الحاكمَ علَى تسليمِ السُّلطةِ منْ خلالَ إبرامِ المعاهداتِ المُذلَّةِ للنِّظامِ أوِ التَّنازلاتِ المحلِّيَّةِ أوِ التَّعويضاتِ النَّقديَّةِ. وقدْ أدَّى الاجتياحُ المُسلَّحُ والنَّهبُ الاقتصاديُّ الَّذي قامتْ بِه القوَى الخارجيَّةُ إلَى زيادةِ حدَّةِ التَّناقضاتِ الاجتماعيَّةِ فِي الصِّينِ، وبدأَ اندلاعُ الثَّوراتِ المضادَّةِ لنظامِ «تشينغ -Qing». فعلَى سبيلِ المثالِ أدَّى ظهورُ الملاكمِينَ فِي عامِ 1900م إلَى دفعِ حركةِ الكفاحِ ضدَّ الغزوِ الخارجيِّ حتَّى بلغَتْ ذُروتَها. وعلَى الرَّغمِ مِنْ إخفاقِ جميعِ تلكَ الثَّوراتِ، إلَّا أنَّهَا كانتْ ضربةً قويَّةً لنظامِ «تشينغ -Qing» الحاكمِ، وعجَّلتْ بتقَهقُرِ ذلكَ النِّظامِ وسقوطِه. وأسهمَتْ عمليَّةُ تعميقِ الأزمةِ الوطنيَّةِ فِي حدوثِ صحوةٍ لدَى الشَّعبِ الصِّينيِّ. وفِي عامِ 1895م، شرعَ الإمبراطورُ «غُوَانْغشُو -Guangxu» ومؤيِّدُوه ممَّنْ لديهِم أفكارُ إصلاحٍ، ومنهُم «كَانْغ يُوِي -Kang Youwei» و«لِيَانْغ تشِيتشَاو -Liang Qichao» فِي حركةِ الإصلاحِ الَّتي استمرَّتْ مئةَ يومٍ، لتصطدِمَ فِي النِّهايةِ بمقاومةٍ ومعارضةٍ عامةٍ وشديدةٍ مِنْ قِبَلِ المُحافظِينَ الَّذينَ كانتْ تقودُهُم الإمبراطورةُ الأرملةُ «تسِيشِي -Cixi». وفي النهاية أخفقَت تلكَ الحركةُ وانتهَتْ بفرضِ الإقامةِ الجبريَّةِ علَى الإمبراطورِ «غُوَانْغشو -Guangxu». وقدْ أشارَ المؤرِّخونَ إلَى تلكَ الحركةِ الإصلاحيَّةِ الَّتي استمرَّتْ لمدَّةِ 103 أيَّامٍ فقطْ. وأعقبَ تلكَ الحركةَ الإصلاحيَّةَ موجةٌ ثوريَّةٌ اجتاحتِ البلادَ طولاً وعرضاً. وقدْ رأتْ حكومةُ «تشينغ -Qing» فِي ظلِّ هذَا الوضعِ المُتأزِّمِ أنَّ عليهَا طرحَ مَا يُسمَّى بالصَّفقةِ الجديدةِ. ولأنَّهَا كانتْ مُخصَّصةً للإصلاحِ الذَّاتيِّ، فقدْ كانتْ تلكَ الصَّفقةُ مجرَّدَ مظهرٍ خادعٍ أكثرَ مِنْ كونِها عملاً جوهريّاً، وسرعانَ مَا أفسحتِ المجالَ لحركةٍ دستوريَّةٍ بُرجوازيَّةٍ. وفِي عامِ 1906م، اضطرَّتْ حكومةُ «تشينغ -Qing» للإعلانِ عنْ خطَّةِ استعدادِها للإصلاحاتِ الدُّستوريَّةِ. ومعَ ذلكَ فقدْ تمَّ وضعُ هذِه الخطَّةِ علَى جدولِ الأعمالِ حتَّى عامِ 1911م عندَما تمَّ انتخابُ مجلسٍ وزاريٍّ جديدٍ. ولمْ يضمَّ ذلكَ المجلسُ سوَى أفرادٍ مِنَ الأسرةِ الإمبراطوريَّةِ وذوِيهِم، وقدْ كانَ مجلسَ وزراءَ إمبراطوريّاً بكلِّ مَا تحملُه الكلمةُ مِنْ معنىً، وأظهرَ عدمَ رغبةِ حكومةِ «تشينغ -Qing» فِي إجراءِ إصلاحاتٍ دستوريَّةٍ. وبينما انشغلَ الإصلاحيُّونَ والدُّستوريُّونَ بالأعمالِ الخاصَّةِ بِهِم، قامَ الثُّوَّارُ البرجوازيُّونَ بقيادةِ «سُون يَات سِين -Sun Yat-sen» بالتَّمرُّدِ سعياً منْهُم للإطاحةِ بسلالةِ «تشينغ -Qing» الحاكمةِ. وفِي أكتوبر/تشرين الأول مِنْ عامِ 1911م، اندلعتِ انتفاضةُ «ووتشَانْغ -Wuchang» واستجابَتْ لذلكَ باقِي المقاطعاتِ فأعلنتِ استقلالَها واحدةً تلوَ الأخرَى. وكانَ ذلكَ بدايةَ سقوطِ أسرةِ «تشينغ -Qing» الحاكمةِ. وعندَما اقتربتِ نهايةُ عامِ 1911م، تمَّ انتخابُ «سُون يَات سِين -Sun Yat-sen» رئيساً مُؤقَّتاً لجمهوريَّةِ الصِّينِ المُنشأَةِ حديثاً. وقامتْ أسرةُ «تشينغ -Qing» بتعيينِ «يُوَان شِيكَاي -Yuan Shikai» رئيساً لمجلسِ وزراءِ الإمبراطوريَّةِ مِنْ أجلِ مجابهةِ جمهوريَّةِ الصِّينِ. وقدْ قامَ «يُوَان -Yuan» -بدعمٍ مِنَ القوَى الخارجيَّةِ– بتحريكِ قوَّاتِ الشَّمالِ مِنْ أجلِ الضَّغطِ علَى الثَّوريِّينَ الجمهوريِّينَ مِنْ ناحيةٍ، وإجبارِهِم علَى التَّخلِّي عَنِ الإمبراطورِ الصَّغيرِ «بُويِي -Puyi» (أوِ الإمبراطورِ «شُوَانْتُونْغ -Xuantong») مِنْ ناحيةٍ أخرَى. وفِي 12 فبراير/شباط مِنْ عامِ 1912م اضطرَّ الإمبراطورُ «شُوَانْتُونْغ -Xuantong» للتَّنحِّي مُنهياً بذلكَ حكمَ أسرةِ «تشينغ -Qing» الَّذي دامَ مدَّةً تصلُ إلَى 268 عاماً.

ثَقَافَةُ تشِينغ

شهِدَ عهدُ حُكمِ أسرةِ «تشينغ -Qing» ازدهاراً ثقافيّاً مُشرِقاً، وظهرتِ العديدُ مِنَ المدارسِ والأوسمةِ الخاصَّةِ بالمواهبِ، وحفِلَتْ تلكَ المرحلةُ بالإنجازاتِ فِي مُختَلفِ المجالاتِ، فكانتْ مرحلةً زاخرةً بأعظمِ صورِ النُّموِّ والرَّخاءِ الَّذي لَا مثيلَ لَه مِنْ حيثُ الفكرُ والثَّقافةُ. وظهرَ عددٌ كبيرٌ مِنَ العلماءِ البارزِينَ، مثلِ «هُوَانْغ زُنْغشي -Huang Zongxi» و«غُو يَانُوو -Gu Yanwu» و«وَانْغ فُوتشِي -Wang Fuzhi» و«يَان يُوَان -Yan Yuan»، وتطوَّرتِ المدارسُ وأساليبُ الدِّراسةِ الَّتي تناقضَتْ معَ الكُونفُوشيُوسيَّةِ الشَّعبيَّةِ الجديدةِ فِي أُسرِ «سُونْغ -Song» و«مِينْغ -Ming». وشهِدتْ مدَّةُ حُكمِ أسرةِ «تشينغ -Qing» بدايةَ نشأةِ الفكرِ الدِّيمقراطيِّ التَّنويريِّ الَّذي استمرَّ مُدَّةً مِنَ الوقتِ فِي بداياتِ حكمِ تلكَ الأسرةِ، ولكنَّه لمْ يتخطَّ حدودَ الكُونفُوشيُوسيَّةِ فيمَا يتعلَّقُ بالفكرِ والثَّقافةِ. ولإحكامِ سيطرتِها الأيديولوجيَّةِ، ومِنْ أجلِ التَّودُّدِ إلَى رجالِ الأدبِ، كرَّستْ أسرةُ «تشينغ -Qing» جهوداً جادَّةً مِنْ أجلِ تكريمِ كُونْفُوشْيُوس وتعزيزِ مكانةِ الكونفوشيوسيَّةِ، واعتُبِرتِ الكونفوشيوسيَّةُ الجديدةُ مثلُ العقائدِ الحجيَّةِ والأرثوذكسيَّةِ لكُونْفُوشْيُوسَ وتعليقات «تشُو شِي -Zhu Xi» علَى الكتبِ الأربعةِ والكلاسيكيَّاتِ الخمسِ بمنزلةِ معيارٍ تعتمدُ عليه.

صُورَةٌ للإِمبِرَاطُورِ «تشِيَان لُونْغ» بِالدِّرُوعِ الاحتِفَالِيَّةِ عَلَى صَهْوَةِ الجَوَادِ، لِلرَّسَّامِ «غُوزِيبِي كَاسِتِيغِلِيُون»

وقدْ كانَ حُكَّامُ «تشينغ -Qing» صارمِينَ فِي التَّحكُّمِ الأيديولوجيِّ والثَّقافيِّ، وذلكَ مشهورٌ بدرجةٍ كبيرةٍ، كمَا دلَّتْ علَى ذلكَ الأدلَّةُ الَّتي عُثِر عليهَا. فقد قاموا بعمليَّاتِ التَّفتيشِ الأدبيَّةِ مِنْ أجلِ التَّضييقِ علَى عددٍ كبيرٍ مِنَ الكُتَّابِ، وكذلكَ ذَوِي القرابةِ المباشِرِينَ ومَنْ ينتمُونَ إلَى عائلاتِهِمُ الكبرَى. ولشعورِ هؤلاءِ العلماءِ بالخطرِ، اختارُوا جميعاً الانغماسَ فِي قراءةِ الكتبِ بعمقٍ والاحتفاظَ بعقولِهِم بعيدةً عمَّا يجرِي حولَهَا. وكذلكَ قامَ حكَّامُ «تشينغ -Qing» بإعادةِ نظامِ الاختبارِ الإمبراطوريِّ كمَسارٍ أُرثوذُكسيٍّ لرعايةِ واختيارِ المسؤولِينَ. ولكِنْ بسببِ اعتمادِ جميعِ عناصرِ الفحصِ علَى أربعةِ كتبٍ وخمسةِ أعمالٍ كلاسيكيَّةٍ، لمْ يُقبَلْ إلّا الأسلوبُ المقاليُّ ذو الثَّمانيةِ أفرعٍ كصيغةٍ منفردةٍ لضبطِ محتوَى وصيغةِ الكتابةِ، وتمَّ منْعُ المُمتحِنِينَ مِنْ إظهارِ مواهبِهِمُ الفعليَّةِ.

الإِنجَازَاتُ الثَّقَافِيَّةُ فِي السَّنَوَاتِ الأَولَى من حُكمِ أُسرةِ تشينغ

علَى الرَّغمِ مِنْ جميعِ مَا قامتِ الصِّينُ بتحقيقِه مِنْ إنجازاتٍ جديدةٍ فِي مجالاتِ الأدبِ والفنِّ وسعيِهَا للحصولِ علَى علومِ الغربِ ومَا وصلُوا إلَيْه منْ تقنيَّاتٍ، إلَّا أنَّهَا ظلَّتْ فِي عهدِ أسرةِ «تشينغ -Qing» تسيرُ خلفَ ركابِ القوَى المُتقدِّمةِ فِي العالمِ، وشهدتِ المرحلةُ المُبكِّرةُ مِنْ حكمِ أسرة «تشينغ -Qing» ظهورَ عددٍ كبيرٍ مِنْ عمالقةِ الأدبِ ممَّنْ يميلُون إلَى الواقعيَّةِ فِي أدبيَّاتِهم، فمنَ الشُّعراءِ نجدُ مثلاً «تشُو دَاجُون -Qu Dajun» و«تشِن غُونْغِين -Chen Gongyin» و«غُو يَانُوو -Gu Yanwu» و«غُوِي تشُوَانْغ -Gui Zhuang» و«تشِيَان تشِنْغ تشِي -Qian Chengzhi» و«دُو آيْ -Du Ai» و«تشِيَان تشِيَان يِي -Qian Qianyi» و«وُو وُيَا -Wu Weiya» و«وَانْغ شِيتْشِين -Wang Shizhen» و«تشَاوْ تشِي شِينْ -Zhao Zhixin»، ومنْ شعراءِ «تسِي -Ci» (أحدِ ألوانِ الشِّعرِ الصِّينيِّ) نجدُ «تشِنْ تشِينْيَان -Chen Qinian» و«نَالَانْ تشِنغدِه -Nalan Xingde» و«تُشُو ييزون -Zhu Yizun»، ومِنْ كُتَّابِ النَّثرِ، هناكَ «هُوِى فَانْغُيُو -Hou Fangyu» و«وِي شِي -Wei Xi» و«وَانْغ وَان -Wang Wan»، ومِنْ كُتَّابِ المسرحِ «هُونْغ شِنْغ -Hong Sheng» (مُؤَلِّفُ كتابِ إيوانِ الأقدميَّةِ) و«كُونْغ شَانْغِرِين -Kong Shangren» (مُؤلِّفُ روايةِ عَاشِقُ زَهرَةِ الخَوخِ). وبحلولِ منتصفِ عهدِ أسرةِ «تشينغ -Qing»، ظهرتْ مجموعةٌ مِنَ المواهبِ الأدبيَّةِ، فمِنَ الشُّعراءِ علَى سبيلِ المثالِ «شِينْ ديتشِيَان -Shen Deqian» و«يُوَان مِي -Yuan Mei» و«ونْغ فَانْغ غَانْغ -Weng Fanggang». وبرزت مدرسةُ «تُونْغِتشينغ -Tongcheng» لكُتَّابِ النَّثرِ، أهمُّهُمْ «فَانْغ بَاو -Fang Bao»، و«لِيُو دَاكُوِي -Liu Dakui»، و«يَاو نَاي -Yao Nai» الَّذي أثَّرَ بشكلٍ كبيرٍ في كُتَّابِ النَّثرِ الّذين جاؤوا بعدَه. وأضحَى الإبداعُ الخياليُّ أعظمَ إنجازٍ أدبيٍّ حدثَ فِي عهدِ أسرةِ «تشينغ -Qing». وقدْ حاولَ «بُو سُونْغ لِنْغ -Pu Songling» إظهارَ سبلِ العلاقاتِ الدَّوليَّةِ والإنسانيَّةِ مِنْ خلالَ الأشباحِ والأرواحِ الَّتي عرضَها فِي روايتِهِ الخياليَّةِ «قِصَصٌ غَرْيبَةٌ مِنْ مَرْسَمٍ لِلرِّعَايَةِ المَجَّانِيَةِ»، بينَمَا قامَ «وُو جِنْغِزِي -Wu Jingzi» بوصفِ العلماءِ الصِّينيِّين مِنْ خلالِ حكاياتِه المُؤثِّرةِ والسَّاخرةِ فِي روايتِه (العلماءُ). لكنْ ظلَّ «تسَاو شُيوِي تشين -Cao Xueqin» يتصدَّرُ قائمةَ الأدباءِ بفعلِ إبداعِهِ فِي أعظمِ روايةٍ خياليَّةٍ كلاسيكيَّةٍ، هيَ (حِلْمُ الغرفةِ الحَمْرَاءِ). وزادتْ مكانةُ الرَّسمِ كذلكَ فِي عهدِ أسرةِ «تشينغ -Qing»، خاصَّةً معَ بروزِ (الرُّهبانِ الأربعةِ) («جِيَان جِيَانْغ -Jian Jiang» و«شِي شِي -Shi Xi» و«شِي تَاو -Shi Tao» و«تشُو دَا -Zhu Da») الَّذين اشتهرُوا بتصوُّراتِهِمُ السَّاميةِ وأنماطِهِمُ العاطفيَّةِ فيمَا يقدِّمُونَه مِنْ لوحاتٍ، وكذلك الرَّسَّامون الَّذينَ يدعَون باسمِ «وَانْغ -Wang» وهُمْ «وَانْغ شِيمِن -Wang Shimin» و«وَانْغ جِيَان -Wang Jian» و«وَانْغ هُوِي -Wang Hui» و«وَانْغ يُوَان تشِي -Wang Yuanqi». وممَّنِ اشتهرُوا بالرَّسمِ الأرثوذكسيِّ فِي المرحلةِ الأولَى مِنْ حكمِ أسرةِ «تشينغ -Qing»: «وُو لِي -Wu Li» و«يُون شَاوْبِنْغ -Yun Shouping». وعندَما انتصفتْ مرحلةُ حُكمِ أسرةِ «تشينغ -Qing»، ظهرَ «وَانْغ شِيشِين -Wang Shishen» و«هُوَانْغ شِين -Huang Shen» و«جِين نُونْغ -Jin Nong» و«غَاو شِيَانْغ -Gao Xiang» و«لِي شَانْ -Li Shan» و«تشِنْغ شِيه -Zheng Xie» و«لِي فَانْغ يِينْغ -Li Fangying» و«لُوه بِين -Luo Pin» (الَّذين عُرِفوا باسمِ غَرِيبي الأطوارِ الثَّمَانِيَةِ في «يَانْغتُشُو -Yangzhou»)، وقد تبنَّى هؤلاء اتِّجاهَ تصويرِ الطَّبيعةِ والتَّعبيريَّةِ فِي إبداعاتِهِمُ الفنِّيَّةِ. وظهرَ كذلكَ رسَّامٌ آخرُ فِي هذَا التَّوقيتِ، وحازَ قدراً مِنَ الشُّهرةِ، هوَ «جُوزِيبِي كَاسْتِيجِلِيُون -Giuseppe Castiglione»، وهوَ مبشِّرٌ إيطاليٌّ سمَّى نفسَه «لَانْغ شِينِينْغ -Lang Shining» بعدَمَا رحلَ للعملِ فِي الصِّينِ وعيَّنَه الإمبراطورُ «تشِيَانُ لُونْغ -Qianlong» فِي منصبِ رسَّامِ القصرِ.

مُلَخَّصٌ لِأَعْمَالِ الأَزمِنَةِ المَاضِيةِ والحَاضِرَةِ

وقدْ قامَ برسمِ لوحاتٍ مُتنوِّعةٍ، كاللَّوحات التي تُصوِّرُ الحملاتِ العسكريَّةَ والمؤتمراتِ الَّتي تعقدُ بالقصرِ بالإضافةِ إلَى بعضِ اللَّوحاتِ الفنِّيَّةِ الأُخرَى. وبعدَ أنْ توطَّدتْ أمورُ الحُكمِ لأسرةِ «تشينغ -Qing»، بدأتْ فِي بذلِ الجهودِ فِي جمعِ الكتبِ ونشرِهَا، ونتجَ عنْ ذلكَ ظهورُ بعضِ الأعمالِ العظيمةِ الَّتي حافظتْ علَى التُّراثِ الأيديولوجيِّ والثَّقافيِّ للصِّينِ منذُ العصورِ القديمةِ، مثلِ: «مُلخَّصٌ لأعمالِ الأزمنةِ الماضيةِ والحاضرةِ» و«المكتبةُ الكاملةُ فِي فروعِ الكُتُبِ الأربعةِ». ونادراً مَا كانَ يهتمُّ أحدٌ مِنَ المسؤولِين أوِ العلماءِ في تلك المرحلةِ من حكمِ أسرةِ «تشينغ -Qing» بالمهاراتِ العلميَّةِ والتِّكنولوجيَّةِ والإنتاجيَّةِ، وهوَ مَا تسبَّبَ فِي ضآلةِ مَا تمَّ إنتاجُهُ فِي هذِه المجالاتِ. ومعَ ذلكَ، كانَ هناكَ تقدُّمٌ ملحوظٌ فِي بعضِ المجالاتِ التَّقليديَّةِ العلميَّةِ والتِّقنيَّةِ. فعلَى سبيلِ المثالِ قامَ «مَاتْيُو رِيشِي -Matteo Ricci» و«جُوَانِن آدَم شَال فُون بِيل -Johann Adam Schall von Bell» بتعديلِ التَّقويمِ الصِّينيِّ التَّقليديِّ وتحديثِه وفقاً للنَّظريَّةِ الفلكيَّةِ الغربيَّةِ وبالطَّريقةِ الَّتي ينتهجُهَا الغربُ فِي التَّقديرِ، بالإضافةِ إلَى الوصولِ إلَى ارتفاعاتٍ كبيرةٍ فِي المبانِي الهندسيَّةِ المعماريَّةِ مثلِ تشييدِ القصورِ والحدائقِ والمعابدِ والمساكنِ والمدنِ الَّتي بلغَتْ ذروتَها فِي جميعِ أنحاءِ البلادِ.

نَشأَةُ الفِكرِ الإِصلَاحِيِّ البُرجُوَازِيِّ وتَطَوُّرُهُ

تسبَّبَ ظهورُ الاقتصاديَّاتِ والطَّبقاتِ الجديدةِ وتدفُّقِ العلومِ والثَّقافةِ الأجنبيَّةِ فِي حدوثِ كثيرٍ مِنَ التَّغيُّراتِ بينَ المُفكِّرِينَ الصِّينيِّينَ. فعلَى سبيلِ المثالِ دعَا «وِي يُوَان -Wei Yuan» إلَى تَعَلُّمِ التِّقنيَّاتِ المُتقدِّمَةِ مِنَ الدُّولِ الغربيَّةِ مِنْ أجلِ امتلاكِ القدرةِ علَى هزيمتِهِم، ونادَى بذلكَ أيضاً غيرُه منَ العلماءِ الصِّينيِّينَ تزامُناً معَ تزايدِ مَنْ ينادُونَ بالتَّعليمِ الخارجيِّ وبدايةِ حركةِ الإصلاحِ. وبدأَ التَّفكيرُ الإصلاحيُّ يتكوَّنُ بينَ العلماءِ الصِّينيِّينَ حتَّى قبلَ أيَّامِ الإصلاحِ المئةِ، وممَّنْ كانُوا ينتهجُونَ هذَا الفكرَ «شِيُوِيه فُو تشينغ -Xue Fucheng» و«مَا جِيَان تشُونْغ -Ma Jianzhong» و«وَانْغ تَاوْ -Wang Tao» و«رُونْغ هُونْغ -Rong Hong» و«تشِنْغ غُوَانِييِنْغ -Zheng Guanying» و«هِي تشِي -He Qi». وقدْ تسبَّبتْ عمليَّةُ الانشقاقِ الَّتي قامتْ بهَا القُوَى الإمبرياليَّةُ فِي الصِّينِ بعدَ الحربِ الصِّينيَّةِ اليابانيَّةِ فِي عام 1894م فِي زيادةِ الدَّعمِ للحركةِ الإصلاحيَّةِ، وانطلاقِ الإصلاحِ الَّذي استمرَّ لمدَّةِ مئةِ يومٍ علَى أيدِي الإصلاحيِّينَ البُرجوازيِّينَ الَّذينَ كانَ منْ بينِهِم «كَانْغ يُوِي -Kang Youwei» و«يَان فُو -Yan Fu» و«تَان سِيتُونْغ -Tan Sitong» و«لِيَانْغ تشِيشَاو -Liang Qichao». وقدْ كانَ هؤلاءِ المفكِّرونَ سبباً فِي إحداثِ تأثيرٍ بالغٍ في المجتمعِ الصِّينيِّ، وفَي انطلاقِ حركةِ تنويرِ التَّحرُّرِ الفكريِّ بفضلِ مَا قامُوا بِه مِنْ إبداعٍ أدبيٍّ وترجمةٍ لكتبِ الأدبِ الغربيِّ.

ظُهُورُ المُثَقَّفِينَ المُعَاصِرِينَ ونَشرُ الثَّقَافَةِ الغَربِيَّةِ

نظراً لظهورِ المُفكِّرِينَ الصِّينيِّينَ المُعاصِرِينَ فِي مرحلةٍ كانتْ الصينُ تمرُّ فيهَا بظروفٍ عصيبةٍ، لذلكَ كانُوا علَى قدرٍ كبيرٍ مِنَ الوطنيَّةِ وتقبُّلِ العلومِ والثَّقافاتِ الأجنبيَّةِ والانفتاحِ الفكريِّ والمثابرةِ فِي العملِ. وارتبطُوا بشكلٍ وراثيٍّ بالتَّقاليدِ الكُونفُوشيُوسيَّةِ الإقطاعيَّةِ، وعلَى الرَّغمِ مِنْ ذلكَ، ألِفُوا الفكرَ القديمَ والمعاصِرَ سواءً بسواءٍ فِي الوقتِ نفسِهِ. ومعَ زيادةِ المُفكِّرِينَ المُعاصِرِينَ، بدأَ الفكرُ الغربيُّ فِي الانتشارِ فِي الصِّينِ كالنَّارِ فِي الهشيمِ، وأدَّى ذلك إلى حدوثِ صراعاتٍ قويَّةٍ بينَ طُرقِ التَّعليمِ الغربيَّةِ والصِّينيَّةِ، وبينَ التَّعليمِ القديمِ والمعاصِرِ فِي كلَا الجانبَيْنِ، الأيديولوجيِّ والثَّقافيِّ، وظهرَ بعضُ العلماءِ ممَّنْ تعلَّمُوا بالطَّريقةِ القديمةِ وانقادُوا بسهولةٍ للفكرِ الغربيِّ. فعلَى سبيلِ المثالِ دعَا «هُوَانْغ زُونِشِيَان -Huang Zunxian» وبعضُ العلماءِ الآخرِينَ إلَى انتهاجِ الأنماطِ الشِّعريَّةِ الثَّوريَّةِ بدلاً مِنْ تلكَ الأساليبِ المُبتذَلةِ. وظهرَتْ أيضاً مجموعةٌ أدبيَّةٌ ذاتُ طابعٍ وطنيٍّ وثوريٍّ، عُرِفتْ بالـ«نَانشِي -Nanshe» (أو بمجموعةِ الجنوبِ)، شنَّتْ حملةً ضدَّ نظامِ «تشينغ -Qing» الحاكمِ. وراجتْ عمليَّةُ ظهورِ رواياتِ الاستنكارِ قُبيلَ نهايةِ عهدِ أسرةِ «تشينغ -Qing» الحاكِمةِ، وبرزَ مِنْ مُؤلِّفِي القصصِ كلٌّ مِنْ: «لِي بُويُوَان -Li Boyuan» و«وُو يَانْرِين -Wu Yanren» و«لِيُو إِي -Liu E» و«زينغ بُو -Zeng Pu». بينَمَا كرَّسَ بعضُ العلماءِ الآخرِينَ مثلِ «لِينْ شُو -Lin Shu» و«زينْغ بُو -Zeng Pu» جهودَهُم لترجمةِ الرِّواياتِ الأجنبيَّةِ ومناقشةِ القُرَّاءِ الصِّينيِّينَ لأوَّلِ مرَّةٍ فِي بعضِ الأعمالِ الفنِّيَّةِ الأجنبيَّةِ.

مَكَانَتُهَا التَّارِيخِيَّةُ

كانتْ سلالةُ «تشينغ -Qing» آخرَ مملكةٍ إقطاعيَّةٍ فِي الصِّينِ، وشهِدَتِ انتقالَ الصِّينِ التَّدريجيَّ مِنْ مجتمعٍ إقطاعيٍّ إلى مجتمعٍ شبهِ استعماريٍّ وشبهِ إقطاعيٍّ، وبفضلِ اهتمامِهِ بإنعاشِ الإنتاجِ عقبَ انتقالِه إلَى المناطقِ الدَّاخليَّةِ، تسبَّبَ نظامُ «تشينغ -Qing» فِي إعادةِ التَّأهيلِ التَّدريجيِّ للمجتمعِ والاقتصادِ، وعندَما تولَّى الإمبراطورُ «كَانْغ شِي -Kangxi» والإمبراطورُ «يُونْغ تشينغ -Yongzheng» والإمبراطورُ «تشِيَان لُونْغ -Qianlong» مقاليدَ العرشِ، تمتَّع الاقتصادُ الإقطاعيُّ بدرجةٍ عاليةٍ مِن الانتعاشِ. وعلَى الصَّعيدِ السِّياسيِّ، أدَّى إقرارُ مجموعةٍ كبيرةٍ مِنَ القوانينِ والأنظمةِ إلَى بعضِ التَّخفيفِ مِنْ حدَّةِ التَّناقضاتِ الاجتماعيَّةِ، وتحقيقِ استقرارٍ اجتماعيٍّ نسبيٍّ ونموٍّ عظيمٍ للقوَّةِ الوطنيَّةِ، وبعدَ استعراضِها الشَّاملِ للخبراتِ السِّياسيَّةِ والدُّروسِ المُستفادَةِ مِنَ الأُسرِ السَّابقةِ، بدأتْ محكمةُ «تشينغ -Qing» حكمَهَا المُبكِّرَ بتعزيزِ إدارتِها وتسييرِ شؤونِ الدَّولةِ بعنايةٍ وحذرٍ شديدٍ، وتعزيزِ مركزيَّتِهَا وتأييدِ الحكمِ فِي ظلِّ سيادةِ القانونِ. ونتيجةً لذلكَ، حقَّقتْ إنجازاتٍ عظيمةً فِي الميدانِ السِّياسيِّ. وكانتْ أبرزُ الإسهاماتِ الَّتي حقَّقتْهَا أسرةُ «تشينغ -Qing» توحيدَ البلدِ وتدعيمَ وحدةِ الأُسرةِ الصِّينيَّةِ مُتعدِّدةِ الأعراقِ، وتحديدَ حدودِ الأراضِي الصِّينيَّةِ. ونظراً للأوتوقراطيَّةِ المُشترَكةِ الَّتي مارَستْ بهَا نُخبَتا «مَنْتشُورْيَان -Manchurian» و«هَان -Han» حكمَهُما، اشتهرَ نظامُ «تشينغ -Qing» بالقمعِ الطَّبقيِّ والوطنيِّ. فعلَى الصَّعيدِ المحلِّيِّ، حكمَتْ «تشينغ -Qing» بيدٍ منْ حديدٍ ووصلتْ إلَى مستوياتٍ غيرِ مسبوقةٍ فٍي إساءةِ استعمالِ السُّلطةِ، وعلَى الصَّعيدِ الخارجيِّ، اتَّبعَ هذَا الفِيلُ الأبيضُ المُتغطرِسُ طريقَ البابِ المُغلَقِ، بعزلِ نفسِه عنْ باقِي العالَمِ وحظرِ مواطنِيه مِن الاتِّصالِ بالأجانبِ، حيثُ عرقلَتْ هذِه الممارساتُ تنميةَ المجتمعِ الصِّينيِّ بشكلٍ مُخيفٍ، وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّ أسرةَ «تشينغ -Qing» ظهرَتْ كنجمٍ ساطعٍ آخرَ فِي التَّاريخِ الصِّينيِّ في المرحلةِ المُبكِّرةِ مِنْ حكمِهَا إلى درجةٍ تسترعي الاهتمام، إلَّا أنَّها ظلَّتْ فيمَا بعدُ راكدةً إلَى حدٍّ مَا فيمَا يتَّصلُ بالإنجازاتِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والثَّقافيَّةِ إذَا مَا قُورِنتْ ببعضِ البلدانِ المُتطوِّرَةِ نسبيّاً فِي أنحاءٍ أُخرَى مِنَ المعمورةِ، بيدَ أنَّهَا ظلَّتْ نرجسيَّةً رافضةً إلقاءَ نظرةٍ علَى التَّغييراتِ العظيمةِ الَّتي تحدثُ فِي الدُولِ الأُخرى. وعندَما اندلعتْ حربُ الأفيونِ فتحَ البريطانيُّونَ أبوابَها بالمدافعِ، وبعدَ تقلُّصِها منْ أوتوقراطيَّةٍ إقطاعيَّةٍ مُستقِلَّةٍ إلَى إمبراطوريَّةٍ شبهِ استعماريَّةٍ وشبهِ إقطاعيَّةٍ، حاولَ نظامُ «تشينغ -Qing» تجديدَ نشاطِه ذاتَ مرَّةٍ، لكنَّه اختارَ ذلكَ فقطْ ليقومَ ببعضِ التَّغييراتِ الطَّفيفةِ بدلاً مِنَ الثَّوراتِ الكبرَى، وعندَما كثَّفتْ بعضُ القُوَى العالَميَّةِ مِنْ عمليَّاتِ تسلُّلِهَا وغزوِها، لمْ يتمكَّنْ حُكَّامُ «تشينغ -Qing» من القيام بشيءٍ سوى الرَّحيلِ عَنِ البلدِ ليُمزِّقَهَا الإمبرياليُّونَ. وفِي أوائلِ القرنِ العشرِينَ، اجتاحَتْ سلسلةٌ مِنَ الثَّوراتِ الدِّيمقراطيَّةِ البرجوازيَّةِ شتَّى أرجاءِ الصِّينِ، وتحتَ قيادةِ «سُون يَات سِين -Sun Yat-sen»، أحدِ أعظمِ الثُّوَّارِ الدِّيمقراطيِّينَ، أُطيحَ بأسرةِ «تشينغ -Qing» واستُبدِلتْ بالنظامِ الجمهوريِّ. ولمْ يُسفِرْ سقوطُ أسرةِ «تشينغ -Qing» عنْ أيَّةِ حلولٍ للتَّناقضاتِ الأساسيَّةِ الَّتي عصفَتْ بالصِّينِ، بلْ أنهَى الحكمَ الأُوتوقراطيَّ الإقطاعيَّ للأراضِي الصِّينيَّةِ الَّذي دامَ أكثرَ مِنْ 2,000 عامٍ.