أُسرَةُ تشِين (221 - 207 ق.م)Qin Dynasty
هيَ أوَّلُ أسرةٍ حكمتِ الصِّينَ دولةً مُوحَّدةً، وقدْ أسَّسهَا الملكُ «يِينْغ تشينغ -Ying Zheng» مِنْ «تشِين -Qin»، وكانتْ دولةً تابعةً فِي حقبةِ الممالكِ المُتحارِبةِ، وفِي عامِ 221 ق.م وبعدَ أنْ حقَّق انتصاراً علَى جميعِ مَا بقِيَ مِنَ الدُّولِ المُستقِلَّةِ، قامَ بتنصيبِ نفسِه باسمِ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» (أوَّلِ إمبراطورٍ لـ«تشين -Qin»)، وكانَ يأمُلُ أن تَحكُمَ أسرتُهُ الإمبراطوريَّةَ إلَى الأبدِ.
وبالرَّغمِ مِنْ فشلِ تلكَ الأسرةِ فِي تحقيقِ مَا توقَّعَه لهَا «تشِين -Qin»، إذ استمرَّتْ زُهاءَ 15 عاماً فقطْ، إلَّا أنَّهَا قامتْ بتصميمِ العديدِ مِنَ الأنظمةِ المُهمَّةِ، وأبرزُهَا السُّلطةُ الإمبراطوريَّةُ المُطلَقةُ، وذلكَ مِنْ أجلِ إحداثِ تأثيرٍ في التَّطوُّراتِ التَّاليةِ فِي مسارِ التَّاريخِ الصِّينيِّ لأكثرَ مِنْ 2,000 عامٍ. وبعدَ توحيدِ الصِّينِ، وضعَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» نظامَ حكمٍ فرديٍّ مركزيٍّ مُطلَقٍ، واستعاضَ عَنِ الإقطاعيَّاتِ الَّتي كانتْ تحكمُها الدُّولُ التَّابعةُ بالوراثةِ، بعدَّةِ مستوياتٍ مِنَ المناطقِ الإداريَّةِ الَّتي كانتْ تُحكَمُ بواسطةِ مسؤولِينَ رسميِّينَ مُعيَّنِينَ. هذَا بالإضافةِ إلَى وضعِ تدابيرَ أُخرَى تهدفُ إلَى تعزيزِ عمليَّةِ التوحيدِ، وقد سارتْ عليهَا الأُسرُ الَّتي جاءتْ بعدَ ذلكَ. ومعَ ذلكَ، فإنَّ طغيانَ السُّلطةِ الحاكمةِ قدْ عجَّلَ بانهيارِهَا. وفِي نهايةِ عهدِ أسرةِ «تشِين -Qin»، حدثتْ ثورةُ الفلَّاحِينَ تحتَ قيادةِ «تشِن شِنْغ -Chen Sheng» و«وُو جُوَانْغ -Wu Guang»، وكانَتْ ضربةً قويَّةً للنِّظامِ الحاكمِ، ولأنَّ تلكَ الثَّورةَ كانتْ أوَّلَ انتفاضةٍ ضدَّ الاستبدادِ في الصِّينِ، فقدْ أثَّرتْ بشكلٍ كبيرٍ في مسارِ التَّاريخِ الصِّينيِّ. وخلالَ الثَّوراتِ الَّتي حدثتْ بعدَ ذلكَ ضدَّ «تشِين -Qin»، عادَ طابعُ الانفصاليَّةِ إلَى الظُّهورِ بفعلِ الماضِي المُنقسِمِ. ولحسنِ الحظِّ، تَمَّ احتواؤُهَا عندَما قامَ «لِيُو بَانْغ -Liu Bang» بهزيمةِ قائدِهَا «شِيَانْغ يو -Xiang Yu» ليتمكَّنَ مِنْ إعادةِ توحيدِ الصِّينِ فِي شكلِ إمبراطوريَّةِ «هَان -Han».
إِجراءَاتُ تَوحيدِ السُّلطَةِ المركَزِيَّةِ
فِي عامِ 221 ق.م قامَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» بتأسيسِ إمبراطوريَّةٍ كبيرةٍ ومُوحَّدةٍ بعدَ غزوِ جميعِ الدُّولِ المُستقِلَّةِ المُتبقِّيَةِ، واختارَ «شِيَانِيَانْغ -Xianyang» عاصمةً لتلكَ الإمبراطوريَّةِ. وفِي العامِ نفسِهِ، أقنعَه مستشارُه «لِى سِي -Li Si» بالاستعاضةِ عنِ النِّظامِ القديمِ القائمِ علَى الإقطاع، بنظامٍ جديدٍ يعتمدُ علَى الأقسامِ والمقاطعاتِ (أصبحَتْ فيمَا بعدُ ولاياتٍ ومقاطعاتٍ فِي الحقبةِ الَّتي تلتْ أسرةَ «تَانغ -Tang»). ثُمَّ انقسمتِ الإمبراطوريَّةُ بعدَ ذلكَ إلَى 36 مقاطعةً (زادَ عددُها بعدَ ذلكَ على 40 مقاطعةً)، بالإضافةِ إلَى المناطقِ الإداريَّةِ الَّتي تخضعُ لسيطرةِ الإمبراطورِ وحكومتِه المركزيَّةِ. وقدْ أدَّتْ هذِه الإجراءاتُ إلَى تمركُزِ السُّلطةِ الحاكمةِ. ولمنعِ ظهورِ أُمراءَ مُستقِلِّينَ مِنْ جديدٍ، عملَ الإمبراطورُ علَى نقلِ عائلاتِ الأثرياءِ والعائلاتِ ذاتِ النُّفوذِ والعائلاتِ الموجودةِ بالولاياتِ السِّتِّ السَّابقةِ التَّابعةِ للإمبراطوريَّةِ مِنْ مواطنِهَا الأصليَّةِ إلَى أماكنَ أخرَى، مثلِ «شِيَانيَانغ -Xianyang» و«بَاشُو -Bashu» و«نَانِيَانغ -Nanyang» و«سَانْتشُوان -Sanchuan» ومنطقة «تشَاو -Zhao» بحيثُ يكونُونَ قيدَ المراقبةِ الوثيقةِ.
ثُمَّ أمرَ بمصادرةِ جميعِ الأسلحةِ الَّتي ليستْ فِي حيازةِ الحكومةِ وصهرِهَا والاستفادةِ مِنْ المادَّةِ النَّاتجةِ عنْهَا فِي سبكِ 12 هيكلاً يزنُ كلٌّ منْهَا نحوَ 60 طنّاً، كمَا أمرَ بإنشاءِ الطُّرقِ الَّتي تربطُ العاصمةَ ببقيَّةِ مقاطعاتِ الإمبراطوريَّةِ، ومِنْ أجلِ تلبيةِ الأصواتِ المناديةِ بتوحيدِ الإمبراطوريَّةِ، أنشأَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» نظاماً إداريّاً جديداً مِنْ خلالَ إعادةِ هيكلةِ وتوسيعِ المُؤسَّساتِ الحكوميَّةِ الَّتي أنشأتهَا أسرةُ «تشِين -Qin» السَّابقةُ. وقدْ تمَّ تزويدُ الحكومةِ المركزيَّةِ بكبيرِ مُستشارِينَ ومُدَّعٍ عامٍّ أوَّلٍ وكبيرِ مراقبِينَ، وكذلكَ بوُزراءَ مسؤولِينَ عَنْ شؤونٍ مُحدَّدةٍ. وقَدْ كانَ هؤلاءِ المسؤُولونَ الكبارُ يقومُونَ بمناقشةِ شؤونِ الدَّولةِ ثُمَّ يبتُّ الإمبراطورُ فِي شأنِهَا. أمَّا السُّلطاتُ المحلِّيَّةُ فتتألَّفُ مِنْ عدَّةِ مستوياتٍ مِنَ الوحداتِ الإداريَّةِ: مثلِ الولاياتِ والمقاطعاتِ والبلديَّاتِ والقرَى. فأمَّا الولاياتُ والمقاطعاتُ فيحكمُهَا البيروقراطيُّونَ ممَّنْ تعيِّنُهُم الحكومةُ المركزيَّةُ، وبالنِّسبةِ للبلديَّاتِ فقدْ كانَ يترأَّسُها مسؤولونَ يُسمَّوْنَ باسمِ «رؤساءِ القرَى». وكانتْ هناكَ أيضاً مكاتبُ خاصَّةٌ بالأمنِ العامِّ المحلِّيِّ، وكانتْ تُسمَّى باسمِ «الحيِّ» ويترأَّسُها «رئيسُ الحيُّ». ويعودُ تاريخُ نظامِ التَّسجيلِ المألوفِ الخاصِّ بِـ«تشِين -Qin» إلى عامِ 375 ق.م، وذلكَ عندَما أمرَ حاكمُهَا الدُّوقُ «تشِيَان -Qian» بتسجيلِ الأُسرِ فِي وحداتٍ خماسيَّةٍ مِنْ أجلِ مساعدةِ مَنْ يُبلِّغُونَ عَنِ المخالفاتِ. وقدْ تمَّ دمجُ هذَا النِّظامِ أثناءَ تنفيذِ الإصلاحاتِ الَّتي قامَ بِهَا «شَانْغ يَانْغ -Shang Yang»، وهذَا تطلَّبَ بدورِه تسجيلَ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ عندَ الولادةِ وإلغاءَ التَّسجيلِ عندَما يُتَوَفَّى، وتقسيمَ الأُسرِ إلَى وحداتٍ خماسيَّةٍ وعشريَّةٍ وذلكَ مِنْ أجلِ تنفيذِ العقوباتِ المُباشِرةِ. وقدْ عملَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» علَى زيادةِ تعزيزِ النِّظامِ مِنْ خلالِ توسيعِ نطاقِ المعلوماتِ المُسجَّلةِ لتتضمَّنَ عناصرَ أخرَى مثلَ العمرِ والأرضِ المملوكةِ، محوِّلاً إيَّاه مِنْ مجرَّدِ إدارةٍ لمساعدةِ مَنْ يُبلِغُونَ عَنِ المخالفاتِ إلَى نظامٍ أساسيٍّ للحُكمِ. وتمَّ أيضاً وضعُ نظامٍ مِنْ 20 درجةً خاصٍّ بالنُّبلاءِ فِي «تشِين -Qin»، وذلكَ مِنْ أجلِ تكريم مِنْ قامُوا بأعمالٍ بطوليَّةٍ عسكريَّةٍ. وتتِمُّ مكافأةُ هؤلاءِ النُّبلاءِ بمنحِهِم منازلَ ومزارعَ وفقَ ترتيبِهِم فِي هذَا النِّظامِ، بالإضافةِ أيضاً إلَى مكافأةِ النُّبلاءِ بحصولِهِم علَى بعضِ الإقطاعيَّاتِ والامتيازاتِ الأخرَى.
ومنْ خلالِ تضمينِ ترتيبِ طبقاتِ النُّبلاءِ أيضاً، تكونُ عمليَّاتُ تسجيلِ الأُسرِ بمنزلةِ شهادةِ هُويَّةٍ للأفرادِ. وبعدَ توحيدِ الصِّينِ، قامَ «تشِينُ شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» بوضعِ عددٍ مِنَ القوانينِ المحلِّيَّةِ، اعتمدَ فِي صياغتِهَا علَى قانونِ «تشِين -Qin» القديمِ، وأتمَّهَا بعناصرَ مِنْ قوانينِ الحكوماتِ السِّتِّ الأخرى السَّابقةِ. أمَّا هذِه القوانينُ فقدْ تبنَّتْهَا الأنظمةُ الحاكمةُ بعدَ ذلكَ كمخطَّطاتٍ للالتزامِ بِهَا حتَّى عصرِ أسرةِ «تَانغ -Tang»، وذلكَ بعدَ تعديلِها فِي عهدِ أسرةِ «هَان -Han»، وفِي غضونِ ذلكَ، قامتِ القوَّاتُ باتِّخاذِ مواقعِها فِي جميعِ أنحاءِ الإمبراطوريَّةِ، ولا سيَّمَا علَى طولِ الحدودِ الشَّماليَّةِ والجنوبيَّةِ. ولضمانِ أنْ يكونَ أيُّ أمرٍ بانتشارِ القوَّاتِ قدْ صدرَ بالفعلِ مِنْ قِبلِ الإمبراطورِ، تطلَّبَ الأمرُ وجودَ رُقعةٍ منْ جُزأَينِ علَى شكلِ نَمِرٍ منْ أجلِ تنفيذِ خطَّةِ الانتشارِ، حيثُ يكونُ النِّصفُ الأيمنُ معَ الإمبراطورِ (الَّذي سيرسلُه معَ المرسومِ) ويحتفظُ قائدُ القوَّاتِ بالنِّصفِ الأيسرِ. وعندِ الجمعِ بينَ النِّصفَيْنِ والتَّأكُّدِ مِنْ أنَّهُمَا معاً يشكِّلانِ الشَّكلَ المرسومَ بدقَّةٍ تامَّةٍ، يتمُّ تنفيذُ هذَا المرسومِ. وقدْ تمَّ وضعُ هذَا النِّظامِ مِنْ أجلِ ضمانِ تحكُّمِ الإمبراطورِ بالقوَّاتِ العسكريَّةِ. ومِنْ أجلِ الإبقاءِ علَى شرعيَّةِ نظامِه الحاكمِ، فقدِ اعتمدَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» نظريَّةَ «دَورَةٌ مِنْ خمسةِ عناصرَ»، التي وضعتْهَا مدرسةُ «يِين يَانْغ -Yin-yang» أثناءَ حقبةِ الممالكِ المُتحارِبةِ. وتنصُّ النَّظريَّةُ علَى تتابُعِ الأُسَرِ فِي تسلسُلٍ دائريٍّ مِنْ خمسةِ عناصرَ هِيَ: الأرضُ، والخشبُ، والمعدنُ، والصَّحائفُ، والماءُ. ولأنَّهم يعتقدون انتسابَ «تشِين» إلَى العنصرِ المائيِّ، الَّذي يثمِّنُ اللَّونَ الأسودَ، لذلك كانتْ جميعُ الملابسِ والأعلامِ الرَّسميَّةِ في الإمبراطوريَّةِ سوداءَ اللَّونِ. وفِي غضونِ ذلكَ، قامَ الإمبراطورُ أيضاً بوضعِ مجموعةٍ مِنَ الطُّقوسِ المُفصَّلةِ الَّتي تتعلَّقُ بالاحتفالاتِ الإمبراطوريَّةِ الَّتي يُعتقَدُ أنَّهَا وثيقةُ الصِّلةِ بمكانتِه، وأمرَ بإنشاءِ قصرِ «إِيبَانْغ -Epang» العظيمِ جنوبيَّ نهرِ «وِيشُوي -Weishui». وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّ الحكمَ الفرديَّ المُطلَقَ كانَ ضروريّاً للحفاظِ علَى الوحدةِ فِي أزمنةِ الإقطاعِ، إلَّا أنَّه وضعَ قيوداً أصابتْ عامَّةَ النَّاسِ بالاختناقِ.
وقد يتحَوَّلُ مِنْ كونِه دفعةً للتَّنميةِ الاقتصاديَّةِ والثَّقافيَّةِ إلَى مُعيقٍ لهَا، وكان هذا التَّحوُّلُ الأشدَّ إثارةً للانتباهِ فِي سنواتِ انحطاطِ المجتمعِ الإقطاعيِّ.
مَقايِيسُ المُعَايَرَة
كانتِ المخطوطاتُ الصِّينيَّةُ تُكتَبُ بشكلٍ مُختلِفٍ فِي ولاياتٍ مُختلِفةٍ خلالَ حِقبةِ الممالكِ المُتحارِبةِ، وذلكَ علَى الرَّغمِ مِن الاحتفاظِ بالعناصرِ الأساسيَّةِ نفسها. ولمواجهةِ تلكَ المشكلةِ، أمرَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» «لِي سِي -Li Si» بتوحيدِ نظامِ الكتابةِ. وتمَّ الاعتمادُ علَى النُّسخةِ القديمةِ الخاصَّةِ بدولةِ «تشِين -Qin» السَّابقةِ معَ دمجِ الخصائصِ الرَّئيسةِ للكتابةِ الخاصَّةِ بالدُّولِ السِّتِّ الأُخرى مِنْ أجلِ توحيدِ نظامِ الكتابةِ النَّحتيِّ الصَّغيرِ، وتعميمِهِ كنظامِ كتابةٍ رسميٍّ، وفِي تلكَ الأثناءِ، انتشرَ كذلكَ نظامُ كتابةٍ مُبسَّطٌ كانَ يُعرفُ باسمِ الكتابةِ الكهنوتيَّةِ. أمَّا العُملاتُ الخاصَّةُ بالأنظمةِ السَّابقةِ - والَّتي تباينَتْ بشكلٍ كبيرٍ فِي أشكالِها وأوزانِها - فقدْ أُلغِيتْ، وحلَّتْ محلَّهَا عُملتانِ معياريَّتان هُمَا: عملةٌ أصليَّةٌ مِنَ الذَّهبِ، ووحدتُهَا الرَّئيسةُ هيَ «اليِي» (قدرها =1 كيلوغرامٍ)، وعملةٌ مشتركةٌ مِنَ النُّحاسِ، وهي العملة نفسُها الَّتي كانتْ مُستخدَمةً فِي دولةِ «تشِين -Qin» السَّابقةِ، وتَزِنُ نحوَ 25 غراماً، وتأخذُ شكلاً دائريّاً معَ وجودِ فتحةٍ دائريَّةٍ في الوسطِ. وقدْ تمَّ أيضاً اعتمادُ وحداتِ القياسِ الَّتي حُدِّدتْ أثناءَ الإصلاحاتِ الَّتي قامَ بِهَا «شَانْغ يَانْغ -Shang Yang» كمقاييسَ للإمبراطوريَّةِ الجديدةِ. وقدْ سهَّلتْ جميعُ تلكَ المقاييسِ الخاصَّةِ بالمعايرةِ مِنْ عمليَّةِ التَّقدُّمِ الاقتصاديِّ والثَّقافيِّ، بالإضافةِ إلَى الوصولِ إلَى دولةٍ مُوحَّدةٍ.
القَمعُ الثَّقافِيُّ
ومنْ أجلِ تغييرِ الاتِّجاهِ الفكريِّ لرعايَاهُ، فقدْ قامَ «تشِين شِي هُوَانغ -Qin Shi Huang» بإيعازٍ مِنْ «لِي سِي -Li Si» بحظرِ جميعِ المدارسِ الخاصَّةِ فِي عامِ 213 ق.م، وأمرَ بحرقِ جميعِ كُتبِ التَّاريخِ والشِّعرِ والفلسفةِ، وذلكَ عدَا تلكَ الكُتبِ الموجودةِ فِي المكتبةِ الإمبراطوريَّةِ وسجلَّاتِ «تشِين -Qin» التَّاريخيَّةِ الرَّسميَّةِ. وقدْ أعربَ علماءُ الكيمياءِ القديمةِ والكُونفُوشيُوسيُّونَ عنْ غضبِهم بشكلٍ سرِّيٍّ مِنْ حُكمِ الإمبراطورِ الاستبداديِّ وعقوباتِه المُهينةِ، فأمرَ ذلكَ الطَّاغيةُ بدفنِ أكثرَ مِنْ 460 منْهُم أحياءً فِي عامِ 212 ق.م، واشتهرَ هذانِ الحدثانِ الوحشِيَّانِ فِي التَّاريخِ الصِّينيِّ باسمِ «حرقِ الكُتبِ» و«دَفنِ العُلماءِ». وهؤلاءِ لمْ يقومُوا فقطْ بقمعِ أفكارِ وأصواتِ الشَّعبِ -الَّذي تسبَّبَ غضبُه فِي تعجيلِ سقوطِ هذَا النَّظامِ- ولكنَّهُ تسبَّبَ أيضاً فِي تدميرِ العديدِ مِنَ الكلاسيكيَّاتِ القديمةِ، وإلحاقِ أضرارٍ جسيمةٍ، لَا يُمكنُ إصلاحُهَا، بالمظاهرِ الحضاريَّةِ الصِّينيَّةِ.
المَهَامُّ العَسكَرِيَّةُ
بعدَ تأسيسِ الإمبراطوريَّةِ المُوحَّدةِ، أرسلَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» الجنرالَ «مِينْغ تِيَان -Meng Tian» لصدِّ هجومِ قبيلةِ «شيُونْغنُو -Xiongnu»، وقامَ «مِينْغ -Meng» باستردادِ الأراضِي المفقودةِ جنوبَ منطقةِ «هيتَاو -Hetao» أعلَى وادِي النَّهرِ الأصفرِ عامَ 215 ق.م، وقادَ الغزاةَ إلَى أقصَى الشَّمالِ فِي العامِ التَّالِي. ومِنْ أجلِ حمايةِ الأراضِي الشَّماليَّةِ الخصبةِ، قامتِ الإمبراطوريَّةُ بإصلاحِ الأسوارِ الدِّفاعيَّةِ الَّتي أنشأتْهَا دولُ «تشِين -Qin» و«يَان -Yan» و«تشَاو -Zhao» السَّابقةُ وربطِهَا بسورٍ ضخمٍ يمتدُّ مِنْ «لِينْتَاو -Lintao» (إقليمِ «مِينْشِيَان -Minxian» الحاليِّ، مقاطعةِ «غَانْسُو -Gansu») فِي الشَّرقِ حتَّى «لِيَاوْدُونغ -Liaodong» فِي الغربِ (شمالَ شرقيِّ مقاطعةِ «لِيَاوْنِينغ -Liaoning» الحاليَّةِ) الَّتي تقعُ حاليّاً فِي بدايةِ السُّورِ العظيمِ.
وفِي الجنوبِ، واصلتْ قوَّاتُ «وَانْغ جِيَان -Wang Jian» حملتَها بعدَ غزوِها لدولةِ «تشُو -Chu» فِي عامِ 223 ق.م، وزحفتْ نحوَ مقاطعةِ «كُوِيجِي -Kuaiji» (تُسمَّى حاليّاً باسمِ مدينةِ «سُوتشُو -Suzhou»، بمقاطعةِ «جِيَانْغسُو -Jiangsu»). ولضمانِ تنفيذِ هذِه البنودِ، أمرَ «تشِين شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» «شِي لُو -Shi Lu» بأنْ يكونَ المسؤولَ عنْ تشييدِ قناةِ «لِنْغتشو -Lingqu» (تُسمَّى حاليّاً باسمِ مقاطعةِ «شِنْغَآن -Xing’an» بِـ«غُوَانْغِشِي -Guangxi») مِنْ أجلِ ربطِ نَهْرَي «شِيَانْغشُوِي -Xiangshui» و«لِيشُوِي -Lishui»، اللَّذَيْنِ يمثِّلانِ معاً روافدَ نهرِ الـ«يَانغِتْسِي -Yangtze» ونـهـرِ اللُّؤْلُؤِ.
سُقُوطُ إِمبِرَاطُورِيَّةِ تشِين
خلالَ مدَّةِ حُكمِهِ، الَّتي استمرَّتْ 11 عاماً حَكَمَ فيهَا إمبراطوريَّةً مُوحَّدةً، أسَّس «تِشِينُ شِي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» جيشاً قويّاً، وأنشأَ حكومةً كبيرةً، وشنَّ عدَّةَ حروبٍ ضخمةٍ وشيَّدَ العديدَ مِنَ الأعمالِ المدنيَّةِ والعسكريَّةِ الهائلةِ، وقامَ بتمويلِها جميعاً مِنْ أموالِ الضَّرائبِ الباهظةِ الَّتي فرضَها. ولتعزيزِ حكمِهِ لطبقةِ مُلَّاكِ الأراضِي، فرَضَ القوانينَ الوحشيَّةَ والعقوباتِ غيرَ الإنسانيةِ مِنْ أجلِ قمعِ عامَّةِ النَّاسِ، وسجنَ مئاتِ الآلافِ مِنَ الشَّعبِ. وعندَما عملَ علَى تقنينِ الملكيَّةِ الخاصَّةِ للأراضِي المحلِّيَّةِ الحاليَّةِ لمْ يقُمْ فقطْ بإعطاءِ المُلَّاكِ أنصِبَتَهُمُ القانونيَّةَ، بل ساعدَهُم أيضاً في انتزاعِ أسهمِ المُزارعِينَ باختلاقِ حيلٍ حقَّقتْ لهُم ذلكَ بطريقةٍ مُشينةٍ. إلَّا أنَّ «تشِين -Qin» أثناءَ سعيِهِ لتحقيقِ تلكَ الوحدةِ، وضعَ الأساسَ لسقوطِ نظامِه الحاكمِ، وذلكَ مِنْ خلالِ تناقضاتِهِ الاجتماعيَّةِ الكثيرةِ. وبعدَ تولَّي ابنِهِ «هُو هَاي -Hu Hai» مقاليدَ الحكمِ فِي عامِ 210 ق.م زادَتْ نسبةُ استغلالِ وقمعِ الفلَّاحِينَ فِي عهدِه، وأضحتِ الامبراطوريَّةُ قنبلةً موقوتةً جاهزةً للانفجارِ فِي أيِّ وقتٍ.
ولمْ يحكُمْ «هُو هَاي -Hu Hai»، أوِ الإمبراطورُ الثَّانِي، بالكادِ سوَى عامٍ واحدٍ، وذلكَ قبلَ اندلاعِ تمرُّدٍ كبيرٍ فِي قريةِ «دَازِي -Daze» فِي يوليُو/تموز مِنْ عامِ 209 ق.م، وانضمَّ الفلَّاحُونَ بقيادةِ «تشِين شِنْغ -Chen Sheng» و«وُو غُوَانْغ -Wu Guang» إلَى مَا يُمكنُ اعتبارُه أوَّلَ ثورةٍ عارمةٍ للفلَّاحِينَ فِي الصِّينِ. وقدْ حازتْ قضيَّتُهُم علَى اهتمامِ الأتباعِ الكُونفُوشيُوسيِّينَ والنُّبلاءِ السَّابقِينَ مِنَ الدُّولِ السِّتِّ التَّابعةِ، ممَّنْ أصبحُوا شخصيَّاتٍ ذاتَ أهمِّيَّةٍ فِي الجيشِ المُتمرِّدِ. وعلَى الرَّغمِ مِنْ أنَّه تمَّ قمعُ تلكَ الثَّورةِ فِي غضونِ نصفِ عـامٍ، إلَّا أنَّها رسَّخَتْ للحركاتِ التَّمرُّديَّةِ ضدَّ استبدادِ النِّظامِ الحاكمِ. وقادَ كلٌّ مِنْ «شِيَانْغ يُو -Xiang Yu» و«لِيُو بَانْغ -Liu Bang» علَى التَّوالِي أكبرَ قوَّتَيْنِ معارضَتَيْنِ. وفِي عامِ 207 ق.م، نظَّمَ «شيَانْغ يُو -Xiang Yu» آخرَ نقطةِ هجومٍ علَى «جُولُو -Julu»، وعلَى الرَّغمِ مِنْ تفوُّقِهَا العدديِّ الهائلِ، إلَّا أنَّهَا سحقتِ القوَّةَ الرَّئيسةَ التَّابعةَ لِـ«تشِين -Qin» الَّتي يبلغُ قوامُهَا نحوَ 400 ألفِ فردٍ، وسدَّدُوا ضربةً قاصمةً للنِّظامِ الحاكمِ. ولأنَّ هذَا الانتصارَ أخلَى السَّبيلَ نحوَ وسطِ الصينِ، فقدْ أفادَ «لِيُو -Liu» كذلكَ، الَّذي يُعدُّ المُنافِسَ الرَّئيسَ لِـ«شِيَانْغ -Xiang». وقادَ كلٌّ منهُمَا قوَّاتِهِما نحوَ وسطِ الصِّينِ، واستولَوْا علَى «شيَانِيَانْغ -Xianyang» عاصمةِ «تشِين -Qin» وأطاحُوا بنظامِ «تشِين -Qin» الحاكمِ. وبدأَ القائِدان المُتنافِسَانِ حربَهُما بدايةِ عامِ 206 ق.م مِنْ أجلِ تولِّي مقاليدِ الحُكمِ. واستمرَّتْ تلكَ الحربُ -الَّتي عُرِفتْ فِي التَّاريخِ الصِّينيِّ باسمِ : الخلافِ بينَ «تشُو -Chu» و«هَان -Han»- مُدَّةَ أربعِ سنواتٍ حتَّى هزيمةِ «شيَانيانغ -Xianyang» وموتِه. وفِي عامِ 202 ق.م، أسَّس «لِيُو -Liu» إمبراطوريَّةً جديدةً مُوحَّدةً، هيَ إمبراطُوريَّةِ أسرةِ «هَان -Han» الغربيَّةِ.