التَّارِيخُ
مَا قَبْلَ أُسْرَةِ تشِين (2100 - 221 ق.م)Pre-Qin Era
يُشيرُ مُصطلَحُ: ما قبلَ أُسرةِ «تشِينَ -Qin» إلى المدَّةِ الزَّمنيَّة الَّتي تمتدُّ مِن العصرِ البِدائيِّ إلى فترةِ المَمالكِ المُتحارِبَةِ، ويمتدُّ العصرُ البِدائيُّ لمراحل طويلةٍ للغايةِ لم تعرفِ التّدوينَ، وتَبدأُ هذهِ المدة بالتَّجمُّعاتِ الاجتماعيَّةِ البِدائيَّةِ حتَّى ظُهورِ التَّجمُّعاتِ القَبَليَّةِ، وتشملُ التَّجمُّعاتُ البِدائيَّةُ النَّموذجيَّةُ تجمُّعاتِ «إنسانِ يُوَانْمُو -Yuanmou Man»، و«إنسانِ لَانْتِيَانَ -Lantian Man»، و«إنسانِ بِكِينغ -Peking Man»، و«إنسانِ الكهفِ العالي -Upper Cave Man»، الَّتي استمرَّتْ حضارَاتُها من 1.7 مليونِ سنةٍ إلى أكثرِ من 18 أَلْفَ سنةٍ مضت، وخلالَ فترةِ التَّجمُّعاتِ القَبَليَّةِ كانَ الأسلافُ الصِّينيُّونَ قدِ استقرُّوا بالفعلِ، وأَنْشَؤُوا ثقافاتٍ تُمثِّلُهم، مثلَ ثقافةِ «يَانْغِشَاو -Yangshao»، وثقافةِ «لُونْغِشَانَ -Longshan»، وثقافةِ «هِيمُودُو -Hemudu» على الضِّفافِ الوُسطَى والسُّفلَى لنهرِ «يَانْغِتْسِي -Yangtz»، إلى جانبِ ثقافةِ «دَاوِنْكُو -Dawenkou» على الضِّفافِ السُّفلَى للنَّهرِ الأصفرِ. وبعدَ ظُهورِ الطَّبقاتِ الاجتماعيَّةِ حَفَلَ التَّاريخُ الصِّينيُّ بالعديدِ من الأُسرِ الحاكمةِ، الَّتي شَمِلتْ «شِيَا وشَانْغَ -Xia,Shang»، و«تشُو الغربيَّةَ -Western Zhou» و«تشُو الشَّرقيَّةَ -Eastern Zhou» (تُشكِّلانِ معاً فترةَ الرَّبيعِ والخريفِ، فضلاً عن فترةِ المَمالكِ المُتحارِبَةِ).
وقَدْ شَهدَتْ مرحلة ما قبلَ «تشِينَ -Qin» انتقالاً تاريخيّاً مُهمّاً من المُجتمعاتِ البِدائيَّةِ إلى المُجتمعاتِ المُتحضِّرةِ، الَّتي اتَّسمَتْ بتأسيسِ مرحلة «شِيَا -Xia» في القرنِ الحادِي والعشرينَ قبل الميلاد، والَّتي تحوَّلتْ فيها طبيعةُ الحُكمِ إلى الأُسرِ الحاكمةِ، وأُرسيَتْ مفاهيمُ الطبقاتِ والوضعِ الاجتماعيِّ والأُسرةِ والمِلْكيَّةِ الخاصَّةِ. وقدِ انتشرَتِ العُبوديَّةُ خلالَ مرحلة «شِيَا - Xia» (1600-2070 ق.م)، و«شَانْغ - Shang» (1046-1600 ق.م)، و«تشُو الغربيَّةِ - Western Zhou» (1046 - 771ق.م)، ولكنَّها تحوَّلتْ تدريجيّاً ليحلَّ محلَّها نظامُ الإقطاعِ خلالَ حقبةِ الرَّبيعِ والخريفِ (476-770 ق.م)، وحقبةِ الممالكِ المُتحاربةِ (221-475 ق.م).
وخلالَ هذهِ المرحلةِ الَّتي امتدَّتْ لأكثرَ مِن 1,800 عام، أنشأَ الأسلافُ الصِّينيُّونَ تاريخاً رائعاً وحضاراتٍ مُزدهِرةً، حيثُ تُمثِّلُ النُّقوشُ على العظامِ ودُروعِ السَّلاحفِ خلالَ مدة حُكمِ «شِيَا-Xia» و«شَانْغ-Shang» إلى جانبِ الآنيةِ البُرونزيَّةِ خلالَ مرحلة «شانغَ» علاماتٍ تاريخيَّةً بارزةً، وجُزءاً أصيلاً من الحضارةِ الإنسانيَّةِ، وخلالَ هذهِ المرحلةِ، وللمرَّةِ الأُولى في تاريخِ الصِّينِ ازدهرَتِ الفلسفةُ، حيثُ أُنشئَتْ نحو مئةِ مدرسةٍ فكريَّةٍ تخرَّجَ منها العديدُ من الحُكماءِ القُدماءِ مثلِ «كُونْفُوشْيُوسَ-Confucius» و«لَاوْتسي-Laozi»، وقد تركَتْ حِكَمُهما الخالدة علاماتٍ فارقةً في الثَّقافةِ الصِّينيَّةِ التَّقليديَّةِ، بَلْ وفي الثَّقافاتِ الأُخرى حولَ العالَمِ، ولا يَزالُ كتابُ «فنِّ الحربِ» الَّذي كتبهُ القائدُ الاستراتيجيُّ العسكريُّ «سُونْزِي -Sunzi» مُطبَّقاً على نطاقٍ واسعٍ حتَّى يومِنا هذا في العديدِ مِنَ المجالاتِ مثلِ الشُّؤونِ العسكريَّةِ والاقتصاديَّةِ.
وقَدْ أنتجَ هذا العصرُ الذَّهبيُّ للثَّقافةِ العديدَ مِنَ الأُدَباءِ مثلَ الشَّاعرِ العظيمِ «تشو يُوَانَ -Qu Yuan»، فضلاً عن الإنجازاتِ العِلميَّةِ الرَّائعةِ مثلِ دَليلِ النُّجومِ لـ«جَان دِي وشَي شِينَ -Gan De and Shi Shen»، وهو أقدمُ فِهْرسٍ للنُّجومِ في العالَمِ، وقَدْ شَهدَتْ هذه المرحلةُ أيضاً وضعَ الصِّينِ المُنقسمَةِ على طريقِ الوَحْدةِ، لأنَّنا إن نظَرْنَا بمَوْضُوعيَّةِ، فسنجدُ أن الصِّراعَ بينَ المُلوكِ والأَسْيادِ المتنافسين على السَّيطرةِ خلالَ فترةِ الرَّبيعِ والخريفِ، وفترةِ الممالكِ المُتحارِبَةِ خلقَ بالفعلِ أوضاعاً تاريخيَّةً لتشِين شَي هُوَانْغ لتوحيدِ البلادِ.
مرحلتا تشِين وهَان (221 ق.م - 220 م)Qin and Han Dynasties
في عام 221 ق.م، أَنْهَى «تشِينُ شَي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» (واسمُه «يِنْغ تشِنْغ -Ying Zheng») الحُروبَ الطَّويلةَ بينَ الأسيادِ المُتصارعِينَ، ووَحَّدَ الصِّينَ في أوَّلِ إمْبِراطُوريَّةٍ عالَميَّةٍ مركزيَّةٍ-إِمْبراطوريَّةِ تشِينَ (221 ق.م - 207 ق.م)، وقدَ وَضَعَ «تشِينُ -Qin» أساسَ مركزيَّةِ القُوَى، وأنشأَ نظامَ الحُكمِ الوِراثيِّ، وأَطْلَقَ على نفسِه لقبَ أوَّلِ إِمْبراطُورٍ لأُسرةِ تشِين، كَيْ يُعزِّزَ الحُكمَ الأُسريَّ في الصِّينِ.
بعدَ انهيارِ أُسرةِ تشِين، أسَّسَ «لِيُو بَانْغ -Liu Bang» (الإِمْبراطورُ «جَاوْتسُو من هَان -Emperor Gaozu of Han») «أُسرةَ هَانَ الغربيَّةَ -Western Han Dynasty» (202 ق.م - 8م)، وبعدَ ذلكَ أسَّسَ «لِيُو تسِيُو -Liu Xiu» (إمبراطورُ جُوَانْغُو من هَان) أُسرةَ «هَانَ» الشَّرقيَّةَ (220-25م)، وحيثُ عُرِفَ العصرانِ معاً بأُسرةِ «هانَ»، احتفظَ النِّظامانِ بشكلٍ كبيرٍ بالنِّظامِ السِّياسيِّ لأُسرةِ «تشِينَ»، وأدخلَا تحسيناتٍ على النِّظامِ الإقطاعيِّ.
وقد شَهِدَتْ مرحلتا أُسرتَيْ تشِينَ وهَانَ ازدهارَ النِّظامِ الإقطاعيِّ الصِّينيِّ، لذلك تحتلُّ هاتانِ الأُسرتانِ مكانةً مُهمَّةً في تاريخِ الصِّينِ القديمةِ، كما يُعَدُّ توحيدُ «تشِين شَي هُوَانْغ -Qin Shi Huang» للبلادِ وتأسيسُ إمبراطوريَّةِ «تشِينَ» أمراً في غايةِ الأهمِّيَّةِ فيما يتعلَّقُ بتأسيسِ الأُسرِ المَلَكيَّةِ، كما حَظِيَتِ الإجراءاتُ المُتَّخذَةُ لتعزيزِ الوَحْدَةِ خلالَ عصرَيْ «تشِينَ» و«هَانَ» -الَّتي شَمِلَتْ إرساءَ نظامِ إقطاعٍ مركزيٍّ، ونظامٍ إداريٍّ يتمثَّلُ في المُقاطعاتِ والمُحافظاتِ- باهتمامٍ كبيرٍ، حيثُ اتَّبعَها حُكَّامُ الأُسرِ واحداً تِلْوَ الآخَرِ منذُ إرسائِها، كما أنَّ إطارَ الحَوْكمةِ الَّذي تمَّ تَبنِّيهِ للحفاظِ على نظامِ الحُكمِ في الصِّينِ الإقطاعيَّةِ لما يَرْبُو على أَلْفَيْ عام، كانَت قَدْ تمَّتْ صياغتُهُ بشكلٍ رئيسٍ أثناء أُسرتَيْ «تشِينَ» و«هَانَ»، كـمـا شَهِدتْ هذه الفترةُ أيضاً إحـرازَ تَقدُّمٍ كبيرٍ في التَّنميةِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ، حتَّى كانَ العصرُ الذَّهبيُّ خلالَ مدة حُكمِ الإمبراطورِ «وِينَ» والإمبراطورِ «جِينْغَ» من أُسرةِ «هانَ» الغربيَّةِ، كما افتُتِحَ طريقُ الحريرِ الَّذي نالَ شُهرةً عالَميَّةً خلالَ فترةِ أُسرةِ «هَانَ»، وذلكَ عقبَ انتهاءِ فترةِ حُكمِ الإمبراطورِ «وُو» لتيسيرِ التَّبادُلِ بينَ الصِّينِ والمناطقِ الغربيَّةِ والدُّولِ المُجاورةِ في وَسَطِ آسْيَا.
كما شَهدَتِ الأُسرتانِ أيضاً تقدُّماً ملحوظاً في الثَّقافةِ والفُنونِ والعُلومِ والتِّكنولوجيا. وقَدْ أُرسيَتِ «الكُونْفُوشْيُوسيَّةُ -Confucianism» كمذهبٍ (مُحافظٍ)، وتمَّ تأليفُ مُصنَّفَاتٍ كلاسيكيَّةٍ في عُلومٍ مختلفةٍ كانَتْ ذاتَ تأثيراتٍ كبيرةٍ في الأجيالِ القادمةِ، منها: سِجِلَّاتُ المُؤرِّخِ العظيمِ (Records of the Grand Historian)، وقد صنَّفهُ «سِيمَا تشيِان -Sima Qian»، وجهازُ قياسِ الزَّلازلِ الَّذي اخترعَهُ «تسَانْغ هِينْغ -Zhang Heng»، والمُصنَّفُ الكلاسيكيُّ: تسعةُ فُصولٍ في فنِّ الرِّياضيَّاتِ، والكتابُ المُهِمُّ في الطِّبِّ: القانونُ الدَّاخليُّ للإمبراطورِ الأصفرِ، كما طوَّرَ «تسَاي لُون -Cai Lun» تِقْنِيَّةَ صناعةِ الورقِ، الَّتي تُعدُّ أحدَ الاختراعاتِ الأربعةِ الكُبرى في الصِّينِ القديمةِ، كما أَتتِ «البُوذيَّةُ -Buddhism» من الهِنْدِ لتحلَّ مَحلَّ الدِّيانةِ المحلِّيَّةِ التَّقليديَّةِ، الَّتي يُطلَقُ عليها «الطَّاويَّةُ -Taoism».
المَمَالِكُ الثَّلَاثُ، مَمْلكَتَا جِين الغربيَّةِ وَجين الشَّرقيَّةِ، وَالأُسَرُ الجنوبيّة وَالشَّمَالِيَّةُ (220م - 589م)Three Kingdoms, Western and Eastern Jin, and Southern and Northern Dynasties
في أواخرِ أُسرةِ هَانَ الشَّرقيَّةِ، اندلعَ تمرُّدُ «العِماماتِ الصَّفراءِ -Yellow Turban»، وبينما كانَ الأسيادُ الأقوياءُ يجمعون قُواهُم لقمعِ هذا التَّمرُّدِ، استغلُّوا هذه الفُرصةَ السَّانحةَ كَيْ يُعزِّزوا قُوَّتَهُم، وبمُجرَّدِ أنْ أحسُّوا أنُّهم قد أَصْبَحُوا أقوياءَ بالدَّرجةِ الكافيةِ، حاوَلُوا إنشاءَ أنظمةٍ انفصاليَّةٍ بقُوَّةِ السِّلاحِ، ومِن ثَمَّ أَدْخَلُوا هذه الأراضيَ الشَّرقيَّةَ القديمةَ في حلقةٍ لا نهائيَّةٍ من الحُروبِ، وقَدْ شَهِدَتِ السَّنواتُ التَّاليةُ (وهي 360 سنةً) حُروباً بينَ المَمالكِ الثَّلاث (280-220م)، فضلاً عنِ التَّقلُّباتِ الَّتي شهدَتْها ممالكُ جِين الغربيَّةِ (280-220م)، وجِينَ الشَّرقيَّةِ (420-317م) والأُسرُ الجنوبيَّةُ والشَّماليَّةُ (589-386م)، وباستثناءِ فترةِ الهُدوءِ الَّتي شَهدَتْها مملكةُ «جين الغربيَّةِ -Western Jin»، ظلَّتِ الصِّينُ منقسمةً خلالَ تلكَ المرحلةِ، حيثُ ظلَّتْ مَمالكُ «وِي -Wei» و«شُو -Shu» و«وُو -Wu» تُحارِبُ بعضَها خلالَ فترةِ الممالكِ الثَّلاثِ، كما دخلَتْ 16 مملكةً في دائرةِ حُروبٍ لانهائيَّةٍ خلالَ فترةِ حُكمِ أُسرةِ «جين الشَّرقيَّةِ -Eastern Jin» والأُسر الجنوبيَّةِ والأُسر الشَّماليَّةِ، ولم تتراجَعْ أيٌّ منها خلالَ فترةِ الأُسر الشَّماليَّةِ والجنوبيَّةِ.
بالرَّغمِ مِن كُلِّ هذا، ظَلَّ الاقتصادُ الجنوبيُّ يتمتَّعُ ببعضِ النُّموِّ، وقد تَتابعتْ هجراتُ الأقلِّيَّاتِ العرقيَّةِ في الشَّمالِ والغربِ نحو قلبِ البلادِ، وعاشوا جميعاً مع المُجتمعاتِ المحلِّيَّةِ، وقد عزَّزَ هذا الأمرُ مِن اندماجِ الأُمَّةِ الصِّينيَّةِ، وفي تلكَ الأثناءِ عزَّزتِ الصِّينُ من اقتصادِها العالَميِّ وتبادُلِها الثَّقافيِّ حتَّى وصلَتْ إلى «لِين يِي -Lin Yi» (الَّتي تقعُ حاليّاً وَسَطَ فِييتنَامَ)، و«فُو نَان -Fu Nan» (الَّتي تقعُ حاليّاً في كَمْبُوديَا)، وشبةِ الجزيرةِ الكُوريَّةِ، واليابانِ، ودُولِ وَسَطِ آسْيَا، والإمبراطوريَّةِ الرُّومانيَّةِ، وقد زادَ الاهتمامُ بالمِيتافِيزِقيَا (ما وراءَ الطَّبيعةِ) خلالَ هذهِ المرحلةِ، وانتشرَتِ الدِّيانتانِ المُتنافستانِ حينئذٍ، البُوذيَّةُ والطَّاويَّةُ وتَطورَّتَا، إلَّا أنَّ مُعظمَ الحُكَّامَ فضَّلُوا الدِّيانةَ البُوذيَّةَ. وفي المجالَيْنِ الأدبيِّ والفنِّيِّ ظهرَ خلالَ هذه المرحلةِ العديدُ من الفنَّانينَ والأُدباءِ الموهوبينَ، وأَنْتَجُوا ثروةً من التُّراثِ الثَّقافيِّ الخالدِ، مثلَ دَواوينِ «تَاو يُوَانْمِينْغ -Tao Yuanming» الشِّعريَّةِ، وبرز عُلماءُ «جِيَانآن» السَّبعةُ (وهُمْ: «وَانْغ كَان -Wang Can»، و«تشِين لِن -Chen Lin»، و«رُوَان يُو -Ruan Yu»، و«لِيُو تسِين -Liu Zhen»، و«شو غَان -Xu Gan»، و«يِنْغ يَانْغ -Ying Yang»، و«كُونْغ رُونْغ -Kong Rong»، وظهر العملُ النَّقديُّ الكلاسيكيُّ الرَّائعُ: «العَقْلُ الأَدبيُّ وتدريبُ التِّنِّينِ»، الَّذي صنَّفَهُ «لِيُو شي -Liu Xie»، إضافةً إلى الأعمالِ الرَّائعةِ في فنِّ الخطِّ لعباقرةٍ مثلِ «وَانْغ شيتْشي -Wang Xizhi»، والأعمالِ الفنِّيَّةِ لعباقرةٍ مِن أمثالِ «غُو كَيْشِيه -Gu Kaizh»، والأعمالِ الرَّائعةِ في «كُهوفِ دُونْهُوَانْغَ -Dunhuang Grottoes» الَّتي نالَتْ شُهرةً عالميَّةً، وفي مجالِ العُلومِ والتِّكنُولوجيا توصَّلَ «زُو تشُونْغِتْشي -Zu Chongzhi» إلى قيمةٍ دقيقةٍ جدّاً للثَّابتِ الرِّياضيِّ بَاي (π) المتعلقِ بالنِّسبةِ بينَ مُحيطِ الدَّائرةِ وقُطرِها (ولم يستطِعْ أحدٌ الوصولَ إليهِ في العالَمِ كله لما يَقرُبُ من أَلْفِ عام)، وألَّفَ «جِيَا سِيشِيه -Jia Sixie» كتاباً حولَ العُلومِ الزِّراعيَّةِ عُنوانه: «أساليبُ لتحقيقِ الرَّخاءِ للنَّاسِ»، ويُعدُّ أحدَ الكُتبِ الزِّراعيَّةِ العظيمةِ في العالَمِ.
سُوي وتَانْغُ والأُسر الخمس (581 - 960م)Sui, Tang and Five Dynasties
في عام 581م أُسَّستْ مملكةُ «سُوي -Sui» عقبَ نجاحِ الانقلابِ الَّذي قامَ بِهِ «يِانْغ جِيَان -Yang Jian»، والدُ إحدَى محظيَّاتِ الإمبراطورِ الأخيرِ لمملكةِ تشُو الشَّماليَّةِ، وبعدَ ثمانِي سنواتٍ أعادَتْ إمبراطوريَّةُ «سُوي -Sui» توحيدَ الجنوبِ والشَّمالِ من جديدٍ بعدَ أن ضَمَّتْ إليها مملكةَ «تشِين»، وفي عام 618م أسَّسَ «لِي يُوَان -Li Yuan» (الإمبراطورُ غاوزو من أُسرةِ تَانْغَ) مملكةَ تَانْغَ (907-618م) بمُساعدةِ ولدِه «لِي شَي مِين -Li Shimin»، بيدَ أنَّ هذا النِّظام تمَّ القضاءُ عليه مِن قِبَلِ الجِنرالِ السَّابقِ «تسُو وِين -Zhu We»، الَّذي أسَّسَ مملكةَ «لِيَانْغَ -Liang» اللّاحقة، الَّتي تُعدُّ بدايةَ الأُسر الخمسِ (960-907م)، كما شَهِدَتْ هذه المرحلةُ ظهورَ تسعِ ممالكَ صغيرةٍ (مُتوازيةٍ أو مُتعاقبةٍ) في الجنوبِ، وواحدةٍ في الشَّمالِ، والَّتي تُعرَفُ مُجتمعةً في التَّاريخِ الصِّينيِّ بالمَمالكِ العَشْرِ (979-891م).
وقد شَهدَتِ المرحلةُ الممتدةُ من مملكةِ سُوي إلى الممالكِ الخمس وحدةَ البلادِ لأعوامٍ طويلةٍ أعقبَتْها فترةُ انشقاقاتٍ، وبشكلٍ عامٍ كانَتْ هذه الفترةُ عصراً ذهبيّاً للإقطاعِ، حيثُ تمتَّعتْ هذهِ الإِمْبِراطوريَّاتُ بقُوَّةٍ كبيرةٍ على المُستوى الوطنيِّ، وبازدهارٍ اقتصاديٍّ وثقافيٍّ.
وقد حقَّقتْ كلٌّ مِن إمبراطوريَّتَيْ «سُوي -Sui» و«تَانْغ -Tang» إنجازاتٍ كبيرةً فيما يتعلَّقُ بالقوانينِ والمُؤسَّساتِ، مثلَ إنشاءِ الإداراتِ الثَّلاثِ والوزاراتِ السِّتِّ، والبدءِ في تطبيقِ الاختباراتٍ الإمبراطورية لاختيارِ المَسْؤُولينَ، وسنِّ قانونِ الضَّريبتَيْنِ، وقد كانَ لهذهِ الإنجازاتِ تأثيرٌ كبيرٌ في الأجيالِ التَّاليةِ، فبفضلِ السِّياساتِ العادلةِ والشَّفَّافةِ تمتَّعتِ الإمبراطوريَّتانِ بأَعْلى درجةٍ مِن التَّبادُلِ الاقتصاديِّ والثَّقافيِّ مع العالَمِ، كما بَلغَتْ ثقافةُ الإقطاعِ الصِّينيَّةُ أَوْجَ ازدهارِها خلالَ هذه المرحلةِ، مُحافِظةً على مكانتِها الرِّياديَّةِ في العالَمِ، كما كانَ عصرُ مَمْلكةِ «تَانْغ» العصرَ الذَّهبيَّ للشِّعْرِ الصِّينيِّ، حيثُ بلغَ التُّراثُ الشِّعْريُّ في هذهِ الفترةِ حوالَيْ 50 أَلْفَ قصيدةٍ كتبَها أكثرُ مِن أَلْفَيْ شاعرٍ، مِن بينهِم الشَّاعرُ الشَّهيرُ «تشِن زِيَانْغ -Chen Zi’ang» (في بدايةِ مملكةِ تَانْغَ)، و«لِي بَاي -Li Bai»، و«دُو فُو -Du Fu» (في مرحلةِ ازدهارِ مملكةِ تَانْغَ)، و«بَاي جُوي -Bai Juyi»، و«يُوَان تشِن -Yuan Zhen» (في مُنتصفِ عصرِ مملكةِ تَانْغَ)، و«لَي شَانْغِيَن -Li Shangyin»، و«دُو مُو -Du Mu» (في أواخرِ عصرِ مملكةِ تَانْغَ)، وقد خلَّفَ هؤلاءِ جميعًا تُراثاً من الأعمالِ الخالدةِ.
خلالَ تلكَ المرحلةِ أيضاً، تَبنَّي «هَان يُو -Han Yu» و«لِيُو تسُونْغُيوَان -Liu Zongyuan» أسلوبَ الشِّعرِ الكلاسيكيِّ، الأمرُ الَّذي كانَ له أعظمُ الأثرِ على الأدبِ الصِّينيِّ منذُ ذلكَ الحينِ، ويشملُ التُّراثُ الثَّقافيُّ لهذهِ المرحلةِ أيضاً أعمالَ فنِّ الخطِّ لِـ«يَانَ تشِينْ تشِينْغَ -Yan Zhenqing» واللَّوْحاتِ الفنِّيَّةَ لِـ«يَانَ لِيبِينَ -Yan Liben»، و«وُو دَاوتْسِي -Wu Daozi»، و«لِي سيشُونَ -Li Sixun»، و«وَانْغ وِي -Wang We»، والرَّقَصَاتِ الاحتِفاليَّةَ مثلَ الرَّقصِ بأَزْيَاءِ قَوْسِ قُزَحَ، وكذلكَ الفنَّ الفريدَ للعديدِ من الكُهوفِ، وفي مجالِ العُلومِ والتِّكنُولوجيا، شهدَتْ هذه المرحلةُ الكشفَ عن اثنَيْنِ مِن الاختراعاتِ الأربعةِ العظيمةِ في الصِّينِ القديمةِ، وهُما الطِّباعةُ والبَارودُ، إلى جانبِ العديدِ مِن الإنجازاتِ الرَّائعةِ الأُخرَى في الفَلَكِ، والرِّياضيَّاتِ، والعُلومِ الجُغرافيَّةِ، والطِّبِّ، والعِمارَةِ، وغيرِها من المجالاتِ الكثيرةِ، وبالرَّغمِ من تفضيلِ العديدِ من أَباطرةِ أُسرةِ تَانْغَ للدِّيانةِ الطَّاويَّةِ، وهو ما جعلَها ديانةً شائعةً في الطَّبقةِ العُليا، ظلَّ الكثيرونَ يَدِينُونَ بالدِّيانةِ البُوذيَّةِ، ويُمارسُونَ شعائرها على نطاقٍ واسعٍ.
أُسر سُونْغ، ولِيَاو، وشِيَا الغربيَّةِ، وجِين (960م - 1234م)Song, Liao, Western Xia and Jin Dynasties
في عام 960م استَوْلى «تشَاو كُوَانْغ ين -Zhao Kuangyin» (الإمبراطورُ «غَاوْزُو -Gaozu» مُؤسِّسُ مملكةِ «سُونْغَ -Song») على عرشِ مملكةِ «تسُو -Zhou» المُتأخِّرَةِ عن طريقِ القيامِ بانقلابٍ في «تشِن تشياو -Chenqiao»، وأَسَّسَ مملكةَ سُونْغَ (1279-960م)، إيذاناً بانقسامِ البلادِ إلى 10 ممالكَ، كما حدثَ سابقاً في عصر الأُسر الخمس، ففي ذلكَ الوقتِ، أسَّستْ عِرقيَّةُ «الخِيتَانِ -Khitans» أُسرة «لِيَاو -Liao» (907 - 1125م) في الشَّمالِ، كما أسَّستْ عِرقيَّةُ «التَّانْغُوتِ -Tanguts» أُرة «شِيَا -Xia» الغربيَّة (1038 - 1227م) في الشَّمالِ الغربيِّ، وقَدْ هُدِّدَ هذا التَّوازنُ الثُّلاثيُّ بين المَمالكِ الثَّلاثِ عام 1115م عندما أسَّسَتْ عِرقيَّةُ الجُورْشِنِ إمبراطوريَّةَ جِينَ (1115 - 1234م) في الشَّمالِ، وبعدَ القضاءِ على مملكةِ لِيَاو عام 1125م، غزَتْ إمبراطوريَّةُ «جِين» عاصمةَ مملكةِ «سُونْغَ»، «كَايْفِنْغَ -Kaifeng» عام 1127م، وأَسرَتِ الإمبراطورَ «تشِنْزُونْغَ -Qinzong» ووالدَهُ الإمبراطورَ «هُوِيْتسُونْغَ -Huizong»، وبذلكَ تمَّ القضاءُ على أسرة «سُونْغَ» الشَّماليَّةِ، وفي وقتٍ لاحقٍ أعادَ «تسَاوْ غُو -Zhao Gou» (الإمبراطورُ غَاوْزُو مُؤسِّسُ مملكةِ سُونْغَ) تأسيسَ مملكةِ «سُونْغَ» في «يِنْغِتْيَانْفُو -Yingtianfu» (مدينةِ «شَانْغِشيُو» الحاليَّةِ في مُقاطعةِ «خِنَانَ»)، ولكنَّهُ فرَّ بعدَ فترةٍ قصيرةٍ إلى «لِين آن -Lin’an» (مدينةِ «هَانْغِتْشُو -Hangzhou» الحاليَّةِ) الَّتي استمرَّ فيها حُكمُ مملكةِ «سُونْغَ» الغربيَّةِ.
شَهِدَتْ هــذه الأُســـر الأربــعُ تَعايُشَ الأنظمةِ الَّتي أسَّــسَــتْــها المجموعــاتُ العِرقيَّةُ المُختلِفةُ، وتعزيــزَ اندماجِ أبناءِ الأُمَّةِ الصِّينيَّةِ، وازدهاراً نسبيّاً في الاقتصادِ.
كما شَهِدَتْ هذه المرحلةُ إنجازاتٍ استثنائيَّةً في العُلومِ والتِّكنولوجيا، حيثُ شهدَتِ استخدامَ ثلاثةٍ من الاختراعاتِ الأربعةِ العظيمةِ على نطاقٍ واسعٍ، وهي: البُوصَلَةُ، والبَارودُ، والطِّباعةُ.
فعلى سبيلِ المثالِ، اخترعَ «بَي شِينْغ -Bi Sheng» طباعةَ القَالَبِ المُتحرِّكِ قبلَ أن يُتوصَّلَ لاختراعِ شيءٍ مُماثلٍ بنحوِ 400 عام، ويشملُ التُّراثُ الثَّريُّ لهذهِ المرحلةِ أيضاً أوَّلَ بُرجِ ساعةٍ فَلَكيَّةٍ اخترعَهُ «سُو سُونْغ -Su Song»، وتصنيفَ موسوعةِ مقالاتٍ عنوانُها: مجموعةُ الأحلامِ لـ«شِين كِيُو -Shen Kuo»، وفيما يتعلَّقُ بالثَّقافةِ، ازدهرَتْ مدرسةُ «كُونْفُوشْيُوس -Confucian» للفلسفةِ المِثاليَّةِ الَّتي عُرفَتْ باسمِ الكُونْفُوشْيُوسِيَّةِ الجديدةِ، في الوقتِ الَّذي كانت فيه الدِّياناتُ المحلِّيَّةُ مثلُ الطَّاويَّةِ، أوِ الدِّياناتُ القادمةُ من الخارجِ مثلُ البُوذيَّةِ تُمارَسُ على نطاقٍ واسعٍ. وقد بَرَزَت مجموعةٌ من الأُدباءِ العظماءِ من بينِهم الكاتبُ الكبيرُ «أُويَانْغ شِيُو -Ouyang Xiu»، إلَّا أنَّ مَنْ بَرَعُوا في الشِّعرِ الموزونِ، الَّذي أُطلِقَ عليه الشِّعْرُ العاطفيُّ أو الوِجدانيُّ، كانوا هُم مَنْ حازوا أَعْلى درجاتِ الشُّهرةِ خلالَ عصرِ أسرة «سُونْغَ»، بما في ذلكَ أسماءٌ عظيمةٌ مِثلُ: «يَان شُو -Yan Shu» و«لِيُو يُونْغ -Liu Yongi» و«سُو شِي -Su Shi» و«تشو بَانْغِيَان -Zhou Bangyan» و«لِي تشِينْغ تشاو -Li Qingzhao» و«شِين تشِي جِي -Xin Qiji»، كما شَهِدَ عصرُ أسرتيْ «سُونْغَ» و«جِينَ» تطوُّرَ كتابةِ الرِّوايةِ والأُوبِرا التَّقليدِيَّةِ وشُيوعَها، كما اشتهرَتْ هذه الأُسر الأربعُ باللَّوحاتِ الفنِّيَّةِ ورسمِ المناظرِ الطَّبيعيَّةِ والزُّهورِ والطُّيورِ، ومظاهرِ الحياةِ اليَوْميَّةِ، ويُعَدُّ رَسْمٌ عُنوانه: عِيدُ «تشِينْغ مِينْغ -Qingming» على جانِبَيِ النَّهْرِ، للفنَّانِ «تشَانْغ زِيْدُوَان -Zhang Zeduan» النَّموذجَ المِثاليَّ للوحات تلك المرحلة، وهي تحتوي على ثروةٍ من المعلوماتِ التَّاريخيَّةِ.
أسرة يُوَانَ (1206 - 1368م)Yuan Dynasty
في عام 1206م أسَّسَ «جِنْكِيز خَان -Genghis Khan» إمبراطوريَّةَ المَغُولِ في هضبةِ المَغُولِ، وبعدَها بمدةٍ وجيزةٍ بدأَ في شنِّ حُروبٍ للاستيلاءِ على الدُّولِ المُجاورةِ، وبعدَ تدميرِه مَمْلكةَ «شِيَا -Xia» الغربيَّة عام 1227م ومملكةَ جِينَ عام 1234م، توسَّعتْ إمبراطوريَّتُهُ ناحيةَ الغربِ من خلالِ ثلاثِ حَملاتٍ عسكريَّةٍ وصلَ من خلالِها حتَّى بُولَنْدَا وَالمَجَرِ وبَغْدَادَ ودِمَشْقَ، وبذلكَ أخضعَ مناطقَ شاسعةً في أُورُوبّا وآسْيَا لحُكمِه، وبعدَ أَنْ وَرِثَ «قُوبْلَاي خَان -Kublai Khan» العرشَ في عام 1260م، شَرَعَ في القيامِ ببعضِ الإصلاحاتِ عن طريقِ اتِّباعِ تقاليدِ عِرْقيَّةِ هَانَ، واختارَ «كَايبِينْغَ -Kaiping» (تقعُ الآنَ داخلَ حُدودِ «مَنْغُوليَا -Mongolia») لتكُونَ (العاصمةَ العُلْيَا)، و«يَانْجِينْغَ -Yanjing» («بِكِينَ -Beijing» الآنَ) لتَكُونَ (العاصمةَ المركزيَّةَ)، وفي نهايةِ الأمرِ أعادَ تسميةِ الإمبراطوريَّةِ حيثُ أَطْلَقَ عليها: («يُوَانَ -Yuan» العَظيمةَ) في عام 1271م، وقضى نِهائيّاً على أسرة «سُونْغَ» الجنوبيَّةِ عام 1279م، وقدِ انهارَتْ هذه الإمبراطوريَّةُ عام 1368م عندما سقطَتْ عاصمتُها المركزيَّةُ في يدِ قُوَّاتِ «مِينْغَ -Ming» الغازيةِ، وانْسحبَ الإمبراطورُ «هُوِيتْسُونْغُ -Huizong» من وَسطِ البلادِ إلى هضبةِ «مَنْغُوليَا -Mongolia».
وقد شَهِدَتِ الصِّينُ أَزْهى عُصورِها خلالَ حُكم أسرة «يُوَانَ-Yuan»، حيثُ كانَتْ أَقْوى دُولِ العالَمِ، لِمَا تتمتَّعُ به من رَهْبةٍ في آسْيَا وأُورُوبّا وأفْرِيقْيَا، وقد أرسلَتِ العديدُ من الدُّولِ، بما في ذلكَ بِرِيطَانْيَا وفَرَنْسَا وإِيطَالْيَا مبعوثينَ دِبْلُوماسيِّينَ إلى الصِّينِ، كما تدفَّقتْ على الصِّينِ قوافلُ التُّجَّارِ، والسُّيَّاحِ، والبَعَثاتِ، وكانَ من بينِ أَشْهرِ مَنْ زَارَ الصِّينَ «مَارْكُو بُولُو -Marco Polo»، الرَّحَّالةُ الإيطاليُّ الَّذي زارَ الصِّينَ في عهدِ «قُوبْلَاي خَان -Kublai Khan»، وقد زارَ العديدَ من المُدنِ الصِّينيَّةِ، وتقلَّدَ مَنْصِباً في إمبراطوريَّةِ «يُوَانَ»، وأعطى وَصْفاً دقيقاً وتفصيليّاً لحُدودِ الإمبراطوريَّةِ، ومعلوماتِ عن التِّجارةِ والصِّناعاتِ اليَّدويَّةِ فيها في كتابِهِ: «رِحْلاتُ مَارْكُو بُولُو» أو «وَصْفُ العالَمِ»، الأمرُ الَّذي ولَّدَ اهتماماً لدى الأُورُوبيِّينَ بالصِّينِ، وجديرٌ بالذِّكْرِ أنَّ الاختراعاتِ الصِّينيَّةَ، مثلَ الطِّباعَةِ والبَارُودِ والبُوصَلَةِ انتقلَتْ إلى أُورُوبّا عن طريقِ العربِ خلالَ تلكَ المدةِ، بينما نُقِلَتْ علومُ العرب في الفَلَكِ والطِّبِّ والرِّياضيَّاتِ إلى الصِّينِ، إضافةً إلى الدين الإسلامي الَّذي انتشرَ على نطاقٍ واسعٍ خلالَ عهدِ أُسرةِ «يُوَانَ»، كما أرسلَتِ الإمبراطوريَّةُ مَبْعُوثِيها الدِّبلُوماسيِّينَ إلى أفْرِيقْيَا، ووفْقاً لبعضِ السِّجِلَّاتِ التَّاريخيَّةِ، جاء بعضُ الأفارقةِ واستَوْطَنُوا الصِّينَ.
وقد تمتَّعتْ مملكةُ «يُوَانَ» بازدهارٍ ونُموٍّ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ في بدايةِ الأمرِ، ولكنَّها عانَتْ من الرُّكودِ والانحدارِ فيما بعدُ، وبفضلِ الاتِّصالاتِ المُكثَّفَةِ والتَّقارُبِ بينَ أتباعِ القوميَّاتِ المختلفةِ، عزَّزتِ الإمبراطوريَّةُ طريقتَها الخاصَّةَ في الزِّراعةِ والحِرَفِ اليدويَّةِ والصِّناعةِ، فضلاً عن امتلاكِها قطاعاً تجاريّاً دائمَ الحركةِ، كما أقرَّتْ عُملةً موحَّدةً لكي يتمَّ تداولُها على مستوى البلادِ بالكاملِ.
وقد تمَّ تحقيقُ إنجازاتٍ مُحدَّدةٍ في العُلومِ والتِّكنولُوجيا والثَّقافةِ، حيثُ حقَّقتِ البلادُ مُستوياتٍ مُتقدِّمةً نِسبيّاً في هذه المجالاتِ، لا سيَّما في فَنٍّ يُعرَفُ باسمِ «يُوَان تشُو -Yuanqu»، أو درَامَا مملكةِ «يُوانَ»، الَّتي تميَّزتْ بالأعمالِ الخالدةِ الَّتي كتبَها كُتَّابٌ من أمثالِ «غُوَان هَان تشِينْغَ -Guan Hanqing» مُؤَلِّفِ (مأساةِ الفَتاةِ دُو إِي)، و«وَانْغ شَيْفُو -Wang Shifu» مُؤلِّفِ (رُومانسيَّةِ الغُرفةِ الغربيَّةِ)، و«بَاي بُو -Bai pu»، و«مَا تشِيُيوَان -Ma Zhiyuan».
مَمْلَكَةُ مِينْغ (1368 - 1644م)Ming Dynasty
بعدَ تأسيسِ إمبراطوريَّةِ «مِينْغَ -Ming»، أَلْغَى «تشُو يُوَان تشَانْغ -Zhu Yuanzhang» (إمبراطورُ «تَايِتْسُو -Taizu» مُؤسِّسُ أُسرةِ مِينْغ) مَنْصِبَ رئيسِ الوُزَراءِ، وتولَّى بنفسِه المُؤسَّساتِ السِّياسيَّةَ والعسكريَّةَ في محاولةٍ منه لتعزيزِ حُكمِه المركزيِّ، وبالرَّغمِ من ذلكَ فقدَ العديدُ من خُلفائِه قُوَّتَهُم لصالحِ رِجَالِ البلاطِ، إمَّا لضَعْفِهم أو صِغَرِ سِنِّهِمْ، وقد شَهِدَتِ الإمبراطوريَّةُ تقدُّماً في الزِّراعةِ، وطَفْرةً في التِّجارةِ الحَضَريَّةِ، ونُموّاً مُتزايداً في بعضِ الصِّناعاتِ الثَّانويَّةِ مثلِ منسوجاتِ الحريرِ، وصناعةِ البُورسلِينِ، وتعدينِ الحديدِ والبُرونْزِ، وصناعةِ الوَرقِ، وبناءِ السُّفنِ، كما شهِدتْ أيضاً بدايةَ ظُهورِ الرَّأسماليَّةِ في بعضِ قطاعاتِ الصِّناعاتِ اليَدويَّةِ، كما اشتهرَتْ هذه المرحلةُ أيضاً بالتَّبادُلِ الاقتصاديِّ والثَّقافيِّ المُكثَّفِ مع الدُّولِ الأفريقيَّةِ ودُولِ شَمالِ شرقِ آسْيَا، لا سيَّما كُورْيَا واليَابَانُ، وقد بلغَ هذا التَّبادلُ ذُروتَهُ عندما قادَ البحَّارُ «تسِينْغ هِي -Zheng He» الرِّحْلاتِ السَّبع التي زارتْ 30 دولةً ومنطقةً آسْيَويَّةً وأفريقيَّةً، وبالرَّغمِ من ذلكَ خَفَتَ مجدُ أسرةِ مِينْغَ تدريجيّاً في مُنتصَفِ وأواخرِ عصرِها، عندما تعرَّضتِ الإمبراطوريَّةُ للغَزْوِ على يدِ القُوَى الصَّاعدةِ مثلِ اليَابَانِ وإِسْبَانْيَا والبُرْتُغَالِ، وهُولَنْدَا الَّتي استولَتْ على تَايْوَانَ عام 1624م، ولم يَتِمَّ استعادةُ الجزيرةِ من المُستعمِرِينَ الهُولَنْدِيِّينَ إلَّا في عام 1662م (في عصرِ أسرةِ «تشِينْغَ») على يدِ الجِنرالِ الصِّينيِّ «تشِينْغ تشِين غُونْغَ -Zheng Chenggong».
أَرْسى نظامُ مِينْغ أُسلوباً في الكتابةِ يُعرَفُ باسمِ (المَقالِ ثَمَانِيِّ الأَرْجُلِ) في امتحاناتِه المَلَكيَّةِ الَّتي أرهقَتْ مَتطلَّباتُها وهَزْليَّتُها النَّاسَ، وبالرَّغمِ من ذلكَ شهدَتْ هذه المرحلةُ العديدَ من الإنجازاتِ في مجالاتِ الثَّقافةِ والعُلومِ والتِّكنُولوجيا، مثلِ الرِّواياتِ الكلاسيكِيَّةِ، ومنها: المُتخَلِّفُونَ عنِ الزَّحفِ، و قِصصٌ رُومانسِيَّةٌ من المَمالكِ الثَّلاثِ، و رِحْلَةٌ إلى الغربِ، و بُرْقُوقٌ في المِزْهريَّةِ الذَّهبيَّةِ، إضافةً إلى أعمالِ الأُوبِرَا، ومنها: بِساطُ الرِّيحِ، وأُلِّفت كُتبُ الجِيُولوجيا، وأشهرُها: يَوْميَّاتُ رِحْلَاتِ «شو شِيَاك -Xu Xiak»، وظهرت الأعمالُ الطِّبِّيَّةُ، ومنها: خُلاصَةُ عِلْمِ الأَدْوِيةِ، والأعمالُ الزِّراعيَّةُ: المَوْسُوعةُ الزِّراعيَّةُ، والأعمالُ التِّكْنُولوجيَّةُ: استغلالُ أعمالِ الطَّبيعةِ، والمَوْسوعاتُ العامةُ: مَوْسُوعةُ «يُونْغِل -Yongle».
أُسرة تشِينْغ (1616 - 1911م)Qing Dynasty
بعدَ سنواتٍ من الحُروبِ والغَزْوِ أسَّسَ «نُورْهَاتْشي -Nurhachi» (الإمبراطورُ المُؤسِّسُ لمملكةِ تشِينْغَ) مملكةَ «جِينَ» اللّاحقة عام 1616م، والَّتي أُعيدَتْ تَسْميتُها «تشِينْغَ -Qing» عام 1636م، عندما تولِّي ابنُه السُّلطةَ، «آيسِن-غِيُورُو هُوَاغ تَاي جي -Aisin -Gioro Huagtaiji».
وفي عام 1644م اخترقَ جيشُه السُّورَ العظيمَ ودمَّرَ نظامَ «مِينْغَ»، ومنذُ ذلكَ الحينِ ظلَّتْ هذه الأُسرَةُ في الحُكمِ لمُدَّةِ 268 عاماً، تعاقبَ على السُّلطَةِ خلالَها 10 أباطرةٍ، هم: «شُون تسِي -Shunzhi»، و«كَانْغ شِي -Kangxi»، و«يُونْغ تسِينْغ -Yongzheng»، و«تشِيَان لُونْغ -Qianlong»، و«جِيَا تشِنْغ -Jiaqing»، و«دَاو غوانغ -Daoguang»، و«شِيَان فِنْغ -Xianfeng»، و«تُونْغِتْسِي -Tongzhi»، و«غُــوَانْغ تشُو -Guangxu»، و«شُوَان تُونْغ -Xuantong».
وقد تمتَّعتِ الإمبراطوريَّةُ بأَزْهى حالاتِ الاستقرارِ الاجتماعيِّ والنُّموِّ الاقتصاديِّ في عُصورِ «كَانْغ شِي»، و«يُونْغ تسِينْغ»، و«تشِيَان لُونْغ»، بَيْدَ أنَّها بدأَتْ في الانحدارِ بعدَ عصرَيْ «جِيَا تشِنْغ»، و«دَاو تشُوَانْغ»، حيثُ تزايدَ الفسادُ السِّياسيُّ، وزادَتْ حدَّةُ الصِّراعاتِ الاجتماعيَّةِ، وقد زادَتْ وَتِيرةُ هذا الاضمحلالِ في ثلاثينيَّاتِ القرنِ التَّاسعَ عَشَرَ، عندما بدأَ المُستعمِرونَ الغربيُّونَ في إدخالِ الأَفْيُونِ إلى الصِّينِ، وهي التِّجارةُ الَّتي دمَّرتِ المُجتمعَ بشكلٍ كبيرٍ، وفي محاولةٍ منها لتخفيفِ آثارِ هذا الدَّمارِ، بعثَتْ حُكومةُ «تشِينْغَ» أحدَ وُزرائِها «لِين تسِي تشُو» إلى «غُوَانْغ دُونْغَ» لمنعِ تجارةِ الأفيونِ. ولسُوءِ الحظِّ، كانَ نجاحُ «لِينَ» في مُهمَّتِهِ الذَّريعةَ الَّتي استخدَمَها المُستعمِرونَ البِريطانيُّونَ لغَزْوِ الصِّينِ ومُواصلةِ تجارةِ الأفيونِ، الَّتي عُرفَتْ في التَّاريخِ بحربِ الأَفْيُونِ، وقدِ انهزمَ نظامُ «تشِينْغَ»، واضطُرَّ لتوقيعِ مُعاهدةِ «نَانجينْغَ -Nanjing» المُجحفَةِ. وكانَتْ هذه المُعاهدَةُ بدايةَ سُقوطِ الصِّينِ كمُجتمعٍ شِبْهِ مُستَعْمَرٍ، فبمُوجبِ هذه المُعاهدةِ، لحقَ بالهزيمةِ المُذِلَّةِ التَّنازُلُ عن بعضِ الأراضِي، ودفعُ تعويضاتِ الحربِ وتكاليفِها الَّتي تحمَّلَها في النِّهايةِ أبناءُ الشِّعبِ الصِّينيِّ، وقد أثارَتْ هذه الأحداثُ غضبَ الشَّعبِ الصِّينيِّ، وأدَّتْ إلى اندلاعِ انتفاضاتٍ مُتواصلةٍ ضدَّ النِّظامِ. وفي عام 1851م انَدَلعَ تمرُّدُ «تَايْبِينْغَ -Taiping»، وانتشرَ كالنَّارِ في الهشيمِ، ممَّا مثَّلَ صفعةً قويَّةً في وجهِ نظامِ «تشِينْغَ»، ولكنَّ حُكومةَ «تشِينْغَ» تمكَّنتْ من قَمْعِه في النِّهايةِ بمُساعدةِ المُستعمِرِينَ الأجانبِ، وبعدَ ذلكَ تعاونَ بعضُ كبارِ المَسْؤُولينَ، مثلِ «تسِينْغ غُوفَانَ -Zeng Guofan»، و«تسُو تسونغ تانغ -Zuo Zongtang»، و«لِي هونغ تشانغ -Li Hongzhang» مع أفرادٍ من الأُسرةِ المَلكيَّةِ، مثلِ «آي هسِين -I-hsin» لإطلاقِ حركةِ تغريبٍ، وعلى الرَّغمِ من أنَّ الهدفَ الأساسيَّ لهذهِ الحركةِ تمثَّلَ في بناءِ صناعةِ الأسلحةِ من أجل قمعِ أعمالِ التَّمرُّدِ الشَّعبيَّةِ، إلَّا أنَّها كانَتْ إِيذاناً ببدايةِ تحديثِ الصِّينِ، حيثُ أَثَّرَ إدخالُ الثَّقافاتِ الغربيَّةِ في العديدِ من المُفكِّرينَ الصِّينيِّينَ، وحوَّلتْ بعضَهُم إلى مُصلِحِينَ رَأْسمَاليِّينَ، بَدؤُوا تحت قيادةِ «كَانْغ يُو وِي -Kang Youwei»، و«لِيَانْغ تشِيتشَاو -Liang Qichao» حركةَ إصلاحِ المئةِ يومٍ في عام 1898م، ولكنَّ هذه الحركةَ الإصلاحيَّةَ تعرَّضَتْ للقمعِ على يدِ الإمبراطورةِ «دُوَاغِر تسِي شِي -Dowager Cixi»، الَّتي قضَتْ على تمرُّدِ المُلاكِمينَ المُناهِضِ للمُستعمِرِينَ، وقد حاولَتِ الإمبراطورةُ «تسِي شِي» في وقتٍ لاحقٍ إجراءَ بعضِ الإصلاحاتِ في النِّظامِ، بَيْدَ أنَّ هذه الإصلاحاتِ جاءتْ مُتأخِّرةً للغايةِ، حيثُ إنَّ النِّظامَ كانَ قد تشبَّعَ بالفسادِ ولا يُمكِنُ إنقاذُه، وفي النِّهايةِ تمَّ إنهاؤُه عَقِبَ ثورةِ 1911م الَّتي قادَها «سُون يَات سِين».
شَهِدَ عصرُ مملكةِ «تشِينْغَ» العديدَ من الفلاسفةِ والعُلماءِ مثلِ: «هُوَانْغ زُونْغشِي -Huang Zongxi»، و«غُو يَان وُو -Gu Yanwu»، و«وَانْغ فُوتشِي -Wang Fuzhi»، و«وِي يُوَان-Wei Yuan»، و«غُونْغ تِسي تشِين -Gong Zizhen»، و«كَانْغ يُو وِي -Kang Youwei»، و«يَان فُو -Yan Fu»، و«تَان سيتُونْغ -Tan Sitong»، و«لِيَانْغ تشِيتشَاو -Liang Qichao»، و«تشَانْغ بِينْغ لِين-Zhang Binglin»، و«تساي يُوَان بِي -Cai Yuanpei».
أعادَتْ هذهِ الثُّلَّةُ من العُلماءِ والمُفكِّرينَ النَّظرَ في النَّظريَّاتِ التَّقليديَّةِ بتفكيرٍ نقديٍّ، وتَبَنَّوُا العُلومَ والثَّقافةَ الغربيَّةَ، وأوقَدُوا جذُوةَ التَّجريبِ في البحثِ العِلميِّ، ويشملُ التُّراثُ الثَّقافيُّ لتلكَ المرحلةِ الرِّواياتِ الكلاسيكيَّةَ مِثلَ: قِصَصٌ غريبةٌ مِن اسْتُدْيُو صِينيٍّ، والعُلَماءُ، وحُلْمُ الغرفة الحَمْراءِ. ويشملُ أيضاً نُصوصَ الأُوبِرَا التَّقليديَّةَ مِثلَ: قصرُ الحياةِ الأبديَّةِ، ومِرْوَحةُ زَهْرةِ الخَوْخِ، إلى جانبِ العديدِ من الإنجازاتِ العظيمةِ في فُنونِ النَّثْرِ والشِّعْرِ والرَّسمِ.
نتيجةَ عدمِ اهتمامِ حُكَّامِ أُسرةِ «تشِينْغَ» بالعُلومِ والتِّكنُولوجيا، لم تشهدِ الصِّينُ العديدَ من الإنجازاتِ في هذهِ المجالاتِ حتَّى تسعينيَّاتِ القرنِ التَّاسعَ عَشَرَ، وتحديداً عندما شجَّعتْ إصلاحاتُ عام 1898م إدخالَ العُلومِ الغربيَّةِ، وصقل مهاراتِ مُفكِّـرِي الصِّينِ الجُددِ، وازدهرَتِ المدارسُ الغربيَّةُ على مُستوَى البلادِ حيثُ بلغَ مجموعُها أكثرَ مِن 47 أَلْفَ مدرسةٍ بحُلولِ عام 1908م، في حينِ سافرَ عددٌ كبيرٌ من الطُّلَّابِ للدِّراسةِ بالخارجِ، ونتيجةً لتوسُّعِ مداركِهم وتحوُّلِ مُعظمِهم لإصلاحيِّينَ مُنفتحِينَ لديهِمُ اهتمامٌ كبيرٌ وعميقٌ بمُستقبلِ البلادِ، كانَ هؤلاءِ الأشخاصُ المُتعلِّمُونَ المُحرِّكَ الرَّئيس لإصلاحاتِ 1898م وثورةِ 1911م، كما شجَّعتْ حركةُ التَّغريبِ أيضاً على ترجمةِ العديدِ من الأعمالِ العِلميَّةِ، الَّتي أَسْهمَت بدورِها في تعزيزِ تنميةِ المواهبِ البَّشريَّةِ في العُلومِ الطَّبيعيَّةِ، ومن بينهِم عالِمَا الرِّياضيَّاتِ: «لِي شَانْلَان -Li Shanlan»، و«هُوا هِينْغ فَانْغ -Hua Hengfang»، وعالِمُ الكيمياءِ «تسُو شُو -Xu Shou»، ومهندسُ السِّكَكِ الحديديَّةِ «تشَان تِيَان يُو -Zhan Tianyou».
وبكَوْنِها آخِرَ نظامٍ إقطاعيٍّ شَهدَتْهُ الصِّينُ، كانَ أبرزُ إنجازٍ حقَّقَتْهُ أُسرة تشِينْغَ للصِّينِ إبقاءَ الأرضِ مُوحَّدَةً والبلادِ كذلكَ، وإنهاءَ ترسيمِ الحُدودِ الصِّينيَّةِ. نتيجةً للتَّقدُّمِ الواضحِ الَّذي تمَّ إحرازُه على الصَّعيدَيْنِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ في عهدِ الأباطرةِ «كَانْغَ شِي»، و«يُونْغَ تشِينْغَ»، و«تشِيَانَ لُونْغَ»، فإنَّ تمسُّكَ النِّظامِ تمسُّكاً شديداً بسياسةِ الانعزاليَّةِ والتَّجاهُلِ التَّامِّ للعالَمِ الخارجيِّ، لا سيَّما النُّموُّ السَّريعُ الَّذي حقَّقَتْهُ الدُّولُ الرَّأسماليَّةُ الكبرى، قد أبعدَ الصِّينَ عنِ التَّقدُّمِ بالتَّوازِي مع التَّوجُّهِ العالَميِّ، ونتيجةً للغَزْوِ على يدِ المُستعمِرينَ الأجانبِ، لا يُمكِنُ للصِّينِ إلَّا أن تَسقُطَ كمُجتمَعِ شِبْهِ مُستَعْمَرٍ، وقد أَنْهَتْ ثورةُ 1911م تاريخَ الحُكمِ الإقطاعيِّ في الصِّينِ الَّذي امتدَّ لأَلْفَيْ عام، وبالرَّغمِ من ذلكَ فَشِلَتْ في الوصولِ إلى أيِّ حلٍّ للمُشكلاتِ الَّتي تعصِفُ بالصِّينِ.
جُمْهُورِيَّةُ الصِّينِ (1912 - 1949م)The Republic of China
بدَأتْ جُمهوريَّةُ الصِّينِ إثرَ انهيارِ نظامِ «تشِينْغ»، وانتهَتْ بتأسيسِ جُمهوريَّةِ الصِّينِ الشَّعبيَّةِ عام 1949م، وقد اتَّصفتْ هذه المرحلة بعدمِ الاستقرارِ والثَّورةِ العارِمَةِ.
بعدَ نجاحِ ثورةِ 1911م، أسَّسَ «سون يَات سِين -Sun Yat-sen» جُمهوريَّةَ الصِّينِ كنظامٍ رأسماليٍّ تشكَّلَ على أساسِ النِّظامِ السِّياسيِّ الغربيِّ القائمِ على فَصْلِ السُّلطاتِ الثَّلاثِ، ولسُوءِ الحظِّ لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتَّى استَوْلَى قادةُ الحربِ الشَّماليُّونَ بقيادةِ «يُوَان شَيْكَاي -Yuan Shikai» على القيادةِ، وشكَّلُوا حُكومةَ «بِيَانْغَ -Beiyang» الاستبداديَّةَ (1912م - 1928م)، وهو النِّظامُ الَّذي تجاهلَ مُواطنِيهِ، وأَلْقى بنفسِه في أحضانِ القُوى الاستعماريَّةِ، وظلَّتِ الحُروبُ تتجدَّدُ بينَ قادةِ الحربِ عاماً بعد عام، مُلقيَةً بالبلادِ في مُعاناةٍ لا تنتهِي.
ومعَ اندلاعِ ثورةِ أُكْتُوبَرَ/تشرين الأول في رُوسْيَا عام 1917م، دشَّنَ بعضُ المُفكرِّينِ الصِّينيِّينَ المُتعصِّبينَ، مثلِ «تشِن دُو شِيُو -Chen Duxiu»، و«هُو شَي -Hu Shi»، و«لَي دَا تشاو -Li Dazhao»، و«لُو شُون -Lu Xun» حركةَ الثَّقافةِ الجديدةِ لمُحاربةِ الإقطاعِ، وقد كانَتْ ثورةُ أُكْتُوبر مصدرَ إلهامٍ لبعضهِمْ مثلِ «تشِن دُو شِيُو»، و«لي دَا تشاو»، حتَّى أصبحوا من أنصارِ المَارْكِسِيَّةِ ودُعاتِها التقدّميّينَ في الصِّينِ، وفي عام 1919م بدأَتْ حركةُ الرَّابعِ من مَايُو/أيار الوَطنيَّةُ المُناهضَةُ للاستعمارِ، وقد كانَتْ هذهِ مرحلةً تاريخيَّةً للطَّبقةِ العاملةِ في الصِّينِ، حيثُ توقَّفُوا عنِ العملِ مراراً، وفي 21 يُولْيُو/تموز أُسِّسَ الحِزبُ الشُّيوعِيُّ الصِّينيُّ في «شَانْغهَاي -Shanghai» بحُضورِ 12 مُمثِّلاً عن العُمَّالِ، من بينهِمْ «مَاو تسِي تونْغ -Mao Zedong»، و«دُونْغ بِي وُو -Dong Biwu»، وقدِ انتُخبَ «تشِين دُو شِيُو -Chen Duxiu» أوَّلَ أمينٍ عامٍ للحزبِ، وفي عام 1924م بدأَ الحزبُ الشُّيوعيُّ الصِّينيُّ والحِزبُ القَوْميُّ الصِّينيُّ أوَّلَ تعاونٍ بينهُما، حيثُ انضمَّ العديدُ من أعضاءِ الحزبِ الشُّيوعيِّ الصِّينيِّ، ومن بينهِم «لي دَا تشاو -Li Dazhao»، و«تَان بِينْغ شَان -Tan Pingshan»، و«مَاوِ تسِي تونْغ -Mao Zedong» وحضَرُوا أوَّلَ مُؤتمرٍ للحزبِ القوميِّ الصِّينيِّ في «غُوَانْغِتشُو -Guangzhou»، وفي يُونْيُو/حزيران 1926م عيَّنتِ الحكومةُ الوطنيَّةُ «تشِيَانْغ كَاي شِيْك -Chiang Kai -shek» قائداً عاماً للجيشِ الثَّوْريِّ الوطنيِّ، الَّذي زحفَ بعدَ فترةٍ وَجيزةٍ نحوَ الشَّمالِ وحاربَ أُمراءَ الحربِ، وقضى على حُكومةِ «بِيَانْغ -Beiyang» في عام 1928م.
وبالرَّغمِ من ذلكَ، «تآمَرَ تشِيَانْغ كَاي شِيك -Chiang Kai-shek»، و«وَانْغ جِينْغ وِي -Wang Jingwei» الشَّخصيَّةُ المرموقةُ في الحزبِ القوميِّ الصِّينيِّ ضدَّ الحزبِ الشُّيوعيِّ الصِّينيِّ وأتباعِهِ من الفلَّاحينَ والعُمَّالِ، وقامَا بالتَّرتيبِ لانقلابِ الثَّاني عَشَرَ من أَبْرِيلَ/نيسان، والخامسَ عَشَرَ من يُولْيُو/تموز عام 1927م، ممَّا أدَّى إلى إجهاضِ الثَّورةِ الوطنيَّةِ، وقد عَادتِ البلادُ إلى حالةِ الفَوْضَى مرَّةً أُخرى، حيثُ بدأَ أُمراءُ الحربِ الاقتِتالَ من جديدٍ على السُّلطةِ، وبَدأتِ القيادةُ العُليا للحزبِ القوميِّ الصِّينيِّ تسقطُ تدريجيّاً في يدِ «تشِيَانْغَ».
لمُواجهةِ الجَناحِ اليمني الخائنِ للحزبِ القوميِّ الصِّينيِّ، أطلقَ الحزبُ الشُّيوعيُّ الصِّينيُّ انتفاضةَ «نَانِتْشَانْغَ -Nanchang» عام 1927م بقيادةِ «تشُو إِنْلَاي -Zhou Enlai»، و«هِي لُونْغَ -He Long»، و«يِي تِينْغَ -Ye Ting»، و«تشُو دِي -Zhu De»، وانتفاضةَ حَصادِ الخريفِ، وانتفاضةَ «غُوَانْغِتْشُو -Guangzhou» في العام نفسِه، وبعدَ أن أسَّسَ الحزبُ الشُّيوعيُّ الصِّينيُّ جيشَهُ الخاصَّ، قادَ الشَّعبَ الصِّينيَّ خلالَ حربِ الثَّورةِ الزِّراعيَّةِ (1937-1927م)، وحربِ المُقاومةِ ضِدَّ اليَابَانِ (1945-1937م)، ومرحلةِ حربِ التَّحريرِ الوَطنيِّ (1949-1945م)، حيثُ هزمَ الغُزاةَ اليَابَانِيِّينَ، وأسقطَ نِظامَ «تشِيَانْغَ -Chiang» الرَّجْعيَّ، وفي النِّهايةِ حررَّ جميعَ التُّرابِ الصِّينيِّ، باستثناءِ بعضِ الجُزرِ، من بينِها «تَايْوَانُ -Taiwan».
ازْدَهرتِ الرَّأسماليَّةُ، وتوسَّعتْ توسُّعاً كبيراً في الصِّينِ بعدَ تأسيسِ جُمهوريَّةِ الصِّينِ عام 1911م، وقد تَمكَّنتِ الشَّركاتُ الَّتي يمتلكُها رَأْسماليُّونَ «بِيرُوقْرَاطِيُّونَ -bureaucrats» من التَّطوُّرِ حتَّى في ظلِّ حُكومةِ «بِيَانْغَ -Beiyang»، وبعدَ تأسيسِ الحزبِ القوميِّ الصِّينيِّ لحُكومةِ «نَانْجِينْغَ -Nanjing» عام 1927م، احتكرَ «البِيرُوقْرَاطِيُّونَ -bureaucrats» تدريجيّاً شِرْيانَ الحياةِ الاقتصاديَّ للأُمَّةِ الصِّينيَّةِ كُلِّها، وقد تشكَّلَتْ رَأسماليَّةُ الدَّولةِ في ثلاثينيَّاتِ القرنِ العِشرينَ حينَ تَبنَّتْها العائلاتُ الأَرْبعُ الكبرى: «تشِيَانْغ -Chiang»، و«سُونْغ -Song»، و«كُونْغ -Kong»، و«تشِين -Chen»، وكانتْ في واقعِ الأمرِ تُسيطِرُ على جميعِ جوانبِ الحياةِ الوَطنيَّةِ في الصِّينِ في ذلكَ الوقتِ.
علاوةً على ذلكَ، كانتِ التَّغيُّراتُ الاجتماعيَّةُ واضحةً للعِيَانِ في ذلكَ الوقتِ، وقد دَشَّنَتْ حركةُ الثَّقافةِ الجديدةِ هذه المرحلةَ بإصدارِها غيرِ المَسْبُوقِ لمَجلَّةٍ باسمِ «الشَّبَابِ -La Jeunesse»، الَّتي أَصْدرَها «تشِين دُو شِيُو -Chen Duxiu»، وقد هاجَمتْ بلا هَوَادةٍ ثقافةَ الإقطاعِ، ومنذُ ذلكَ الحينِ استَقرَّتْ مفاهيمُ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ والعُلومِ لدَى العامةِ، واكتسبَتْ لُغَةُ الكتابةِ الدَّارجةُ الحديثةُ رَوَاجاً بينَ النَّاسِ، كما تَحقَّقتْ إنجازاتٌ واضحةٌ في مجالاتِ التَّعليمِ والعُلومِ والنَّشرِ، لا سيَّمَا العُلومُ الاجتماعيَّةُ والأَدبُ والفَنُّ.
جُمْهُورِيَّةُ الصِّينِ الشَّعْبِيَّةُ (مُنْذُ أَوَّلِ أُكتوبر/تشرين الأول عام 1949م)The People’s Republic of China
أُسِّستْ جُمهوريَّةُ الصِّينِ الشَّعبيَّةُ في الأوَّلِ مِن أُكتوبر/تشرين الأول عام 1949م، ومنذُ ذلكَ الحينِ بَدأتِ البلادُ مسيرةَ الثَّورةِ الاشتراكيَّةِ والبناءِ.